لعل بعض القراء لاحظوا فكرة تكرَّرت في بضعة مقالات كتبتها في الآونة الأخيرة، ألا وهي "الكذب" لقد جالت الخواطر في رأسي حول هذا الموضوع منذ أن بدأت الإعداد لإلقاء كلمة في "الميلانيزيانا"، وهو مهرجان ثقافي ذائع الصيت تشهده سنوياً مدينة ميلانو. وهذا العام، كان يتمحور الحدث الذي أقيم في شهر يونيو حول موضوع "حقيقة وأكاذيب"، وتضمّن خطابي بعض الملاحظات حول الخيال الروائي. فهل الرواية مثال عن الكذب؟ لنأخذ على سبيل المثال رواية "المخطوبان" (The Betrothed) المشهورة للكاتب أليسّاندرو مانزوني. حين كتب "مانزوني" عن شخصية دون أبّونديو الذي التقى بشخصين غليظين على مقربة من قرية ليكُّو، كان يعلم جيداً أنه يسرد قصة من تأليفه. إلا أنه لم يكن يكذب: كان يتظاهر بأن أحداث حكايته حصلت بالفعل، وكان يطلب من القارئ المشاركة في خياله، بالأسلوب ذاته الذي قد نجاري فيه ولداً صغيراً يلتقط قضيباً ويلوح به متظاهراً أنه سيف. في الحالات الطبيعية، يقتضي الخيال الروائي استخدام علامات إرشاد، بدءاً من كلمة "رواية" على الغلاف ووصولاً إلى عبارات افتتاحية على غرار "كان يا ما كان" أو "في يوم من الأيام". ولكن في حالات أخرى، يلجأ الكاتب إلى بعض الحيل الإضافية. تأملوا مثلاً مستهلّ رواية "رحلات غاليفر" (Gulliver’s Travels) للمؤلف جوناثان سويفت: "إن السيد ليميويل غاليفر... قبل ثلاثة أعوام، وبعدما سئم من حشد الأشخاص الفضوليين الذين يأتون إليه في منزله الكائن في رادريف، اشترى قطعة أرض صغيرة بالقرب من نوارك. ...وقبل أن يغادر رادريف، ترك هذه الأوراق في عهدتي... لقد قرأتها بتمعّن ثلاث مرات، وأريد القول إن هيئة الحقيقة تظهر جلياً في النص بأكمله، وبالفعل، لقد كان الكاتب يشتهر بصدقه إلى درجة أصبح يُضرب به المثل بين جيرانه في "رادريف"، فيقول كل مَن أراد تأكيد أمر ما إنه حقيقي كما لو أن غاليفر تفوه به". وعلى صفحة عنوان الإصدار الأول من "رحلات غاليفر"، لا يُذكر الكاتب على أنه "سويفت" إنما "غاليفر"، ما يعزِّز فكرة أن الشخصية الرئيسية، هي التي "كتبت" الرواية. لعل الحيلة لا تنطلي على القراء دائماً: بدءاً من كتاب المؤلف "لوقيان السميساطي" بعنوان "قصة حقيقة"، وحتى أيامنا هذه، نرى أن البراهين المبالغ فيها عن الحقيقة تبدو في نهاية الأمر علامات خيال قصصي. ولكن غالباً ما تمتاز الروايات بحبكة جيدة من الأحداث والمراجع الخيالية عن العالم الحقيقي إلى درجة أن القراء قد يشعرون بالحيرة والالتباس. وأحياناً، يأخذ بعض القراء الروايات على محمل الجدّ وكأنها قصص غير خيالية، وينسبون آراء الشخصيات إلى الكاتب. وأستطيع القول انطلاقاً من خبرتي كروائي إنه حين تتجاوز مبيعات القصة، لنقل، 10 آلاف نسخة، تتّسع رقعة القراء من جمهور معتاد على مطالعة خيال روائي إلى جمهور أوسع نطاقاً، وأقل إدراكاً يقرأ الرواية على أنها سلسلة من التصاريح الحقيقية. ويعيد هذا الأمر إلى ذاكرتي مسارح دمى صقلية التقليدية حيث يعيش المشاهدون أحياناً أحداث القصة إلى درجة أنهم يشتمون فعلياً شخصية الشرير الكلاسيكية "غانو دي ماغانزا". وفي روايتي بعنوان "بندول فوكو" (Foucault’s Pendulum)، تهزأ شخصية "ديوتاليفي" من صديقها "بيلبو" المهووس بأجهزة الكمبيوتر قائلةً بالإيطالية: "لا ماكّينا إسيستي، سيرتو، ما نون إي ستاتا برودوتّا نيلاّ تُوا فالّي ديل سيليكوني"، أي أن "الجهاز موجود، طبعاً، ولكن لم يتم إنتاجه في وادي السيليكون خاصتك". وقد أوضح زميل يدرِّس مادة العلوم، لي بتهكُّم أن الترجمة الصحيحة لاسم "وادي السيليكون" إلى الإيطالية هي "فالّي دي سيليسيو"، وليس "فالّي ديل سيليكوني". حاولت أن أشرح له أن القصد منها كان إطلاق دُعابة. أشرت إلى أن الحواسيب مصنوعة من السيليكون وقلت له إنه لو كلّف نفسه عناء مواصلة القراءة، لكان اكتشف أنه حين يدعو "جاراموند بيلبو" إلى إدراج الكمبيوتر في "تاريخ المعادن"، الذي وضعه لأنه مصنوع من السيليكون، يجيبه: "ولكن، السيليكون ليس معدناً، بل إنه شبه فلز". وأوضحتُ له أنه في المقطع الذي يرد فيه اسم "فالّي ديل سيليكوني"، لم أكن أنا مَن يتحدث بل ديوتاليفي. أولاً، ليس من الضروري أن تكون شخصية ديوتاليفي ملمّة تماماً بالعلوم أو اللغة الإنجليزية، وثانياً، كان "ديوتاليفي" يسخر من الترجمات السيئة من الإنكليزية، مثلما يترجم أحدهم نقانق "الهوت دوج"، حرفياً، بالكلب الساخن. ارتسمت على وجه زميلي ابتسامة مشكِّكة، مقتنعاً على ما يتّضح بأن شرحي لم يكن سوى مجرد ترقيع من تأليفي لعدم الاعتراف بالخطأ الذي ارتكبته. إنها إحدى الحالات التي تعذَّر فيها على القارئ، وعلى الرغم من ثقافته، عدم الالتصاق بالنص، وقراءة الرواية على نحو متكامل رابطاً أجزاءها المختلفة. كما تبيَّن أنه لا يتقبَّل فكرة الاستهزاء. وأخيراً، كان عاجزاً عن التمييز بين وجهة نظر المؤلف ووجهات نظر شخصيات الرواية. وبالنسبة إلى هؤلاء القراء، إن مفهوم "ادِّعاء الحقيقة" بعيد عنهم كل البعد. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"