أكتب هذه المقالة وما يزال القتال جاريّاً بين المعارضة الليبية والقذافي وأعوانه، وبعد أن استسلمت بعض قوات كتائبه وقادتها للثوار الليبيين، وسواء قبض على العقيد وأعوانه أو قتل في معركة، فإن ذلك لن يغير من الواقع الفعلي، فقد سقط نظام القذافي أصلاً منذ أن هب المواطنون الليبيون وانتفضوا في ثورة عارمة، وكانت طلائعهم هي جيل الشباب الذي لم يعرف خلال أربعين عاماً سوى حكمه وكتابه الأخضر. فقد كان النظام ترجمة لأوهام رجل مريض بحب السلطة والزعامة، كتم على صدور الليبيين وسجن كل الشعب الليبي وقطع صلاته بالعالم وبالعصر، ولم يعد من صوت يصدر من ليبيا سوى صوته ولم يعد مسموحاً لأحد سواه بأن يتحدث أو يفكر، فهو الزعيم الفرد والحكيم الأوحد وكأنه كان الممثل الوحيد على خشبة المسرح في ذلك النوع من المسرحيات ذات الواحد، والآخرون متفرجون! ولكن هذه المسرحية القذافية افتقدت براعة الإخراج وما يصحبه من ديكور وموسيقى تصويرية. ومع ذلك فهذه المقالة اليوم ليست عن الماضي الكئيب والممتلئ بالجرائم والتعذيب والاغتيالات، وأموال الشعب المنهوبة والسفه الذي مارسه العقيد في التصرف في أموال شعبه لشراء الذمم والضمائر حتى يصبح "ملك ملوك أفريقيا"، ويخجل كل عربي متصل بعالم السياسة والحكم في أفريقيا عندما يسمع كيف كان بعض الرؤساء والساسة الأفارقة يتحدثون عن هذا "العربي المجنون" بعد أن يقبضوا منه الثمن. إنما الحديث موجه لليبيين وقادتهم الذين يتحملون اليوم والغد مسؤولية ليبيا وشعبها حتى يخرج من هذا الكابوس وتنظيم حياته العادية ويستعيد بناء دولته القائمة على العدل والكرامة والديمقراطية. لكن بعد الظلام الذي كان يخيم على البلد الشقيق ليبيا، ثمة اليوم بصيص من النور وفرص أمل كبير تدعو للتفاؤل، فرئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبدالجليل قال في حديث مباشر وشجاع، إنه لن يقبل أن يكون رئيساً لمجلس يتولى المسؤولية تحت ظل الفوضى وظل العمليات الإرهابية التي يشجعها ويتولاها فريق صغير ممن سماهم بالمتطرفين الإسلاميين الذين خرجوا على الإجماع ولم ينصاعوا لتعليمات المجلس الانتقالي وتوجيهاته.. وأكد مكرراً أن القصاص العادل والمحاكمات العادلة هي من مهمة القضاء وأنه لا يرضى إلا بتقديم كل من دارت حوله شبهات بالاشتراك في جرائم النظام المنهار وأعوانه للمحاكمة العادلة والشفافة، لأنه ومعه كل الليبيين المستنيرين، يريد أن تقدم ثورة ليبيا نموذجاً للتحضر والوعي السياسي والإنساني والالتزام بالقانون الدولي، حتى تصبح ليبيا الثورة نموذجاً للتحضر والاستنارة بعيداً عن أية عمليات انتقام قد يمارسها مظلومون ومغبونون من نظام بائد ظل يمارس الظلم ضد شعبه. ومثل هذا الحديث الذي يجعل المرء يأمل أن تكون الحكمة وروح التسامح وليس التنازل عن الحقوق بالقانون- هما ما سيتحكم في تصرفات الثوار الليبيين. إن المسؤولية والمهمات العاجلة التي يحمل عبئها اليوم المجلس الانتقالي وحكومته في استعادة ليبيا الدولة المسؤولة، أكبر من الأعباء والمشاق التي تحملها الثوار حتى دخلوا طرابلس، فالهدم دائماً أسهل من البناء.. والعالم الذي شجع ويؤيد الثوار الليبيين ينتظر منهم أن يثبتوا أنهم رجال بناء دولة يتشرف المجتمع الدولي بعودتها إلى أحضانه.. والمجتمع الدولي، وأعني الأمم المتحدة، عليها مسؤولية أخلاقية وقانونية، بأن تساعد الدولة الجديدة في عملية إعادة البناء، وحلف الأطلسي عليه أن يفهم أن مهمته قد انتهت بانتصار الثورة وانتهاء نظام القذافي. وعلى الجميع أن يفهموا أن هذه الثورة العربية الجديدة التي انطلقت أولاً من تونس هي من صنع المواطن العربي المغبون والمظلوم وأن ما أخر انفجارها كان مواقف البعض ومساندتهم لبعض الأنظمة السابقة التي كانت تقوم بدور الحراسة لمصالحهم ضد شعوبها.. فلتكن هذه الثورة والربيع العربي بداية لفهم وإدراك سادة العالم الأول بشكل أسلم وأقوم للواقع العربي وللأمة العربية.