كانت أجواء قرية أَصيلة، أقصى الشمال المغربي، في موسمها الثالث والثلاثين وسطى ما بين الحر والدفء، صيفها وشتاؤها لا قيظ ولا زمهرير. ناهيك عن فسحة القول باجتماع مؤيدي الثورات ومعارضيها، ودماثة راعيها الوزير محمد بن عيسى، والتواضع المغاربي الذي جعل ابن خلدون (ت 808 هـ) من قبل يعترف للمشارقة بالسبق في صناعة الكتابة. قال: "سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أُصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين، وهي: أدب الكاتب لابن قُتيبة، وكتاب الكامل للمبرِّد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي. وما سوى هذه الأربعة فتبع لها" (مُقدمة ابن خلدون، في علوم اللِّسان العربي). أُثبت هذا لما بين المشارقة والمغاربة من تحاسد سابق. زَينت هذه المقولة "أدب الكاتب"، ولم ألحظها في المصنفات الأُخر، مع أن لها فضلاً في سير الرُّكبان بهذه الأمهات. أخوتنا المشارقة، لا المغاربة، ضمن فعاليات "أصيلة"، أطنبوا في ندوة "انحسار دور النُّخب..." (10-11 يوليو 2011)، عند تأييد المثقفين العراقيين لإسقاط نظام صدام حسين (أُعدم 2006) بأيدٍ أميركية، ولولا شفافية الاجتماع، والالتزام بأدب الحوار لقالوها بوجوهنا: "أنتم عُملاء"! كذلك عابوا على العراقيين أنهم عارضوا نظامهم من دمشق، وهي بالنسبة إليهم مثلما كانت بغداد لنا، يحكمها "العدو"! وبطبيعة الحال قصدوا شاعرنا محمد مهدي الجواهري (ت 1997) وقوله في حافظ الأسد (ت 2000): "يا حافظ العهد يا طَلاع ألويةٍ.. تناهبتَ حلبات العزِّ مُستبقا". وهي مِن قصيدة "دِمشق يا جبهة المجد" ألقاها الشَّاعر في الحفل الخاص الذي أقامته له وزارة الثَّقافة السُّورية (1978)، ولأبي فرات أكثر مِن قصيدة للشَّام والأسد. كذلك يُلام العراقيون أنهم عاشوا بسوريا، وكتبوا في صحفها، وفتحوا دوراً للنَّشر، كدار "المدى" مثلاً. عندما ركز أحد الأَخوة على دور العراقيين وأخذ يُهيل التهم لوجودنا بدمشق، قاطعته قائلاً: "وين تردون أروح"! وأعني كان الموت من ورائنا وسوريا أمامنا! أجاب: "هذا هو السؤال! كيف تهربون من دكتاتورية إلى دكتاتورية"! هنا غدت التهمة مركبة: عملاء للأميركان وعملاء لسوريا! كان التعليق السوري الرسمي، على تشنج نوري المالكي ضد دمشق بعد كلِّ تفجير ببغداد وعلى مطالباته بتسليم رموز النِّظام السابق: "لو فعلنا هذا ما أصبحت رئيساً للوزراء". القصد أن سوريا أمست محطة للعراقيين الشَّاردين، وماذا يفعل العاري مِن جواز السَّفر وزاد الرَّحيل. وهل خلت بغداد من المعارضين السوريين، وخلت من الشُّعراء العرب، ألم يقل شاعرها نزار قباني (ت 1998) في صَّدام: "هو مَن قطرَ اللَّونَ الأخضر في عينيَّ"! وهو القائل مادحاً بعد وقف الحرب العبثية بين العراق وإيران: "اليوم عُرس خرج الفرس"! يعلم أخوتنا، مِن سوريا ولبنان، كم صحيفة كانت تمون مِن بغداد، وكم عدد العاملين الشَّاميين في المراكز الثقافية العِراقية التي كانت ترغب في شواء جلودنا، لكن بعد حرب الخليج وقف سيل المال فتنصل مَن تنصل عن النِّظام السَّابق، وعاد الشاعر هاجياً لصدام بعد أن قطر اللون الأخضر في عينه: "مضحكة مبكية معركة الخليج.. فلا النِّصال انكسرت على النِّصال.. ولا الرِّجال نازلوا الرِّجال.. ولا رأينا مرة أسوار بانيبال.. فكلُّ ما تبقى لمتحف التاريخ.. أهرام من النعال". فعلام نُعير ويُلعن شعراؤنا لأنهم قالوا في حافظ الأسد، أو أنهم اتخذوا من دمشق مأوى لهم عندما صاروا عُراة في وجه الرِّيح، مع علمنا الأكيد أن دمشق لم تكن سخية بسخاء بغداد على اللائذين بها. نعم، رغبنا بإسقاط النظام بمعونة أميركية أو بريطانية أو عربية إذا حصلت، ولم يُكن الجميع مسايراً لشن حرب السقوط، بل أن حزبين هما: حزب الدَّعوة الإسلامية والحزب الشِّيوعي العِراقي اتفقا على الرَّغم من التباعد على الموقف ضد الحرب وحتى آخر لحظة. لكن أن يُشكل الحزبان أو غيرهما فرقاً للمقاومة والحرب على الأميركان، فهذا لم يكن متاح لهما، وأرى مَن يعلن ذلك ويترك الطريق الآخر لخروج الأميركان يدعي ما ليس يملكه. لستُ مدعياً: إن الثورات التي تجتاح المنطقة لم تكن شرارتها بالشاب التُّونسي البوعزيزي، بل بسقوط هيبة حاكم بغداد عند الظهور على الشَّاشة في تلك الهيئة المخجلة، بعد عناد طال وطال، ربما هو أراد التغيير وقبلها أراد الخروج مِن الكويت، حتى لا يسمح لشاعر شامي يقول "أهرام مِن النَّعال"، لكن حاشيته رأت أن تلبس ثوب الشجاعة في حضرة القائد، والقائد لا ينزل عن شجاعة مريده درجة، فكانت المأساة جهلاً في جهل. لا يغريكم شخص ما بأنه حمل الأميركان إلى العراق، ويخط على بيوت الفقراء المسلوبين مِن قبله وبقية الفاسدين بعد (التحرير) عبارة "محطم الأصنام"، وكم تجد العبارة متناغمة مع المدِّ الديني الشَّعبي. تكذب معارضة الأمس وسلطة اليوم على أنها أعلنت فجر الحرية، بل الأميركان يعرفون متى يُسيرون جيوشهم، وباقي الكلام مجرد فقاعات. لكن معارضتنا السابقة أرادت خطف النَّصر لها، ومقاومتنا الحالية تريد ابن علقمي (ت 656 هـ) آخر تنشر عليه غسيل بؤسها. بمعنى أن الأميركان قادمون سواء قبلت النُّخب أو أبت! يبقى كيف قبلنا ولم نشهر سيفاً بوجه الغازين! فها نحن ننتظر ما تفعله النُخب مع الثورات في الساحات العربية، وما يرجوه الثوار مِن الأميركان في إسقاط الأنظمة لهم، فالعامل الخارجي صار هو الأقوى في ثورات هذا القرن. عُقدت النّدوة بأصيلة على مسافة من نقطة عبور طارق بن زياد (ت 102 هـ) إلى إسبانيا (عام 92 هـ)، والرجل لم يخطب الخطبة العصماء، ولم يحرق السُّفن، فمهما بحثتم في التَّواريخ لم تجدوا لها أثراً، بل أراها لفقت حباً بفخامة الكلام، وما سمعناه من الآملين بالتحرير مِن أنظمتهم تجاهنا هو فخامة الكلام والمقام (الثوري). أقول: ليست حالتنا العراقية عُذراً للنكسات، ومناسبة لإبراز البطولات، فهم كما قال اليمني الأصل والكوفي المقام فروة بن مُسيك المُرادي (ت 30 هـ)، وهو يفارق ملوك كِندة: "وإن نُقتل فلا جُبنٌ ولكن.. منايانا وطُعمةُ آخرينا" (الطبري، تاريخ الأُمم والملوك). لنرى أي الثورات ستستغني عن ودِّ الأميركان، وعساها لا تكون طعمة للآخرين، وأي النُّخب لا تطلب ودهم مِن تطوان إلى بغدان!