أن تعرف أكثر مما يجب، يعني أن تجد أسئلة محتدمة متراصة خلف ذواتها، مشفوعة بإجابات محبوكة خلف أقنعة الواقع. وعندما تتراكم الإجابات، فذلك يعني أن ناقوس خطر بدأ يقرع أجراسه من مغبة وقوع المحظور، وهو أن تكون صاحب فكر مضاد للسائد أو لما يُراد أن يكون. وإذا عُرف عنك أنك صاحب معرفة أو فكر، فإما أن تكون وجهةً للعقلاء والمحتاجين للمشورة الواقعية، أو أن تتعرض للتهم حتى تثبت التهمة. وإنْ كنت بريئاً، أو لم تتحول إلى أسطورة وهمية، فقد تكون متورطاً- من وجهة نظر البعض- مع تيار ما، وبالأمس كانت تُهمتك الأساسية هي الادعاء بأنك صاحب فكر شيوعي، ومن ثم "يصح" أن تُرجم حتى الموت في أحد الميادين العامة! يا لها من معرفة مهلكة، فصاحب الجهالة الذي ينعم في جحيم الجهل، قد يكون أفضل حالاً لأنه يعيش حياته بانطلاق مفرط، أو أنه بعيد عن مغبة اتهام أو سوء ظن. وصاحب الفكر، والأسئلة والعقل المستنير غارق في إثبات الإخلاص والعطاء دون حدود، ودون أية نوايا متوقعة. فمن هو من يستحق الحياة إذاً بسلاستها دون تعقيدات؟ ...هل هو الذي يعيش دون أن يحرك غصن شجرة نحو الشمس. الذي يعرف يعيش لهدف، ويسعى لحقيقة هو أو ذريته من بعده، ولا يلج أبواب الضلالة أبداً. إنه صاحب شعلة الحرية والمعرفة المؤلمة في الإصرار على الحياة، وهو الذي تطبع كلماته في كتب المدرسة ويتحول صداها إلى أشعة ضوء تعطي للحياة رونقها وسببها الأصيل في الاستمرار، حتى وإنْ تعرض هو وأمثاله لمضايقات، أو تم حصارهم باتهامهم أو إنكار فضلهم، فإن هذا تأسيس لسيرة ذاتية تتحول إلى تاريخ، وإلى القول إن إنساناً يُدعى كذا قد مر من هنا وإن شمساً ساطعة الصدق قد رافقته رحلة حياته، وبثت دقئها على سائر الأماكن، لأنها فقط كانت تذهب أينما حل صاحب الفكر. لا تثريب عليهم هؤلاء المناهضون للجهل المنادون بالعلم والمعرفة، فربما كانوا ضحايا عقولهم وأقوالهم المأثورة، فإن الزمن لا ينسى ، ويبقى العلم هو سيد التاريخ والجغرافيا وسير الأولين وعبرهم. لهذا لابد أن يحيا الإنسان طامحاً في التجديد ورافضاً للرتابة، ويقطع سير الظنون وكوابيسها، وكي يقول كلمته حتى وإنْ كان الصراخ حوله كاتماً لصوته. وإلا ما نفع حياة لا يوجد بها أناس يؤسسون لحياة أفضل، وفكر أعمق، وهذا تقدير لمعنى أن يكون للإنسان قيمة ووزن، رغم صعوبة التيار وعلو الأمواج. الحياة تستحق أن تعاش فقط بكرامة المعرفة وإصرار على البحث عن الأفضل، وبكتابة تستمد هيبتها من جدية روحها، وشجاعة ما تحويه من معنى.