إحدى الميزات المثيرة للاهتمام في السياسة الخارجية التي تتبعها إدارة أوباما تتمثل في التباين الموجود بين الدبلوماسية العامة الناعمة التي تقوم على تجنب المواجهة والصدام، والتي تستعملها حين التعامل مع أنظمة ديكتاتورية وخصوم مثل روسيا والصين وفنزويلا، والفظاظة والجفاء اللذين كثيراً ما تعامل بهما أصدقاء أميركا وحلفاؤها. أحدث مثال على ذلك جاء الأسبوع الماضي في العراق، حيث الولايات المتحدة منخرطة في تنافس معقد وخطير مع إيران. ومكمن المشكلة هو ما إن كانت الحكومة العراقية التي يقودها الشيعة ستطلب من واشنطن الإبقاء على 10 آلاف جندي أو نحو ذلك من أصل الـ47 ألف جندي الموجودين هناك، بدلًا من إكمال انسحاب كامل بنهاية هذا العام. والسؤال الأكبر هو ما إن كان العراق سيرغَم من قبل انسحاب أميركي كامل على أن يصبح دولة تابعة لإيران، وهو تطور من شأنه نسف استثمار ضخم ومؤلم من الدماء والأموال الأميركية وتوجيه ضربة مدمرة ربما لموقف الولايات المتحدة الأكبر في الشرق الأوسط. الإدارة الأميركية أوضحت أنها مستعدة لعقد اتفاق يقضي بالإبقاء على بعض القوات. ولكن استمالة القيادة العراقية المشتتة والصعبة ودفعها إلى القيام بالاختيار الصحيح سيقتضي كياسة وصبرا وانخراطا على مستوى عال – على غرار ذلك الذي استخدمته إدارة بوش عندما تفاوضت حول إطار استراتيجي مع العراق قبل نهاية ولايتها في 2008، أو ذاك الذي استعمله نائب الرئيس "جو بايدن" في المساعدة على التوصل لاتفاق حول حكومة عراقية جديدة العام الماضي. ولذلك، فقد كان مفاجئاً سماع وزير الدفاع "ليون بانيتا" يقول ببغداد في رسالته إلى الزعماء العراقيين: "اللعنة، اتخذوا قرارا ما". فنبرة هذه الرسالة، وعلى غرار خطابات أخرى للإدارة الحالية حول اتفاق ممكن، تشير إلى أن أوباما وكبار مساعديه يعتقدون أنهم يعرضون على رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي خدمة أو معروفاً ما من خلال التشجيع على طلب بشأن الإبقاء على قوة بعد الانسحاب، ولا يعتقدون أن بقاء قوة هناك يمثل مصلحة أميركية حيوية. ولكن آخرين ينظرون إلى الأمر على نحو مختلف. فالمالكي، وعلى غرار القادة الأميركيين في الشرق الأوسط، يدرك جيداً أنه من دون وجود عسكري أميركي، فإن العراق سيكون غير قادر على الدفاع عن نفسه ضد جاره الإيراني، ولاسيما أن المليشيات المدعومة من طهران شرعت منذ بعض الوقت في تكثيف الهجمات على القوات العراقية والأميركية بواسطة قذائف وعبوات ناسفة متطورة تزرع على حافة الطريق؛ ومن دون مساعدة أميركية، فإن القوات العراقية لا تستطيع التصدي لها بسهولة. وعلاوة على ذلك، فإن القوات العراقية التقليدية ليست نداً لنظيرتها الإيرانية. ونتيجة لذلك، يقول "فريدريك كاجان" من "معهد المشروع الأميركي"، فإن المالكي وحكومته يواجهان اختياراً حاسماً ومصيرياً. وحول هذا الموضوع كتب "كاجان" مؤخراً يقول: "إذا سمح المالكي للولايات المتحدة بمغادرة العراق، فإنه بذلك يعلن نيته الانصياع لرغبات طهران، وإخضاع سياسة العراق الخارجية للإيرانيين، وربما توطيد سلطته هو نفسه كحاكم فارسي حديث في بغداد". أما السيناريو الثاني الممكن، فيتمثل في إمكانية استعمال العراق لعائداته النفطية المتزايدة في العمل بسرعة على تكوين جيش بري وقوات جوية قادرة على التصدي لإيران. غير أن أي من التطورين سيُنظر إليه باعتباره تهديداً استراتيجياً من قبل بعض الأطراف الإقليمية. معظم المراقبين العراقيين يعتقدون أن المالكي يريد أن يطلب بقاء قوة أميركية؛ ولكن المشاكل جمة، إضافة إلى الممارسة العراقية المألوفة المتمثلة في تأجيل القرارات الصعبة إلى آخر لحظة. ولعل أخطرها هو اعتماد المالكي من الناحية السياسية على الحركة الشيعية التابعة لمقتدى الصدر. فهذا الأخير يهدد بمقاومة مسلحة في حال بقاء القوات الأميركية، والهجوم الحالي لمليشيات تدعمها إيران يُظهر أن طهران مستعدة للقتال. غير أن مسؤولي الإدارة الأميركية يجادلون بأن خطر هيمنة إيرانية في العراق – وبالتالي أهمية بقاء قوة هناك – يضخم ويبالغ فيه من قبل محللين مثل "كاجان". وفي هذا السياق، قال لي "أنتوني بلينكن"، وهو أحد كبار مساعدي بايدن: "إن إيران منشغلة وتكافح من أجل حل مشاكلها الاقتصادية"، مضيفاً "والتوتر بين القادة الإيرانيين يقوض قدرة طهران على اتخاذ قرارات بشأن السياسة الداخلية والخارجية"، كما أن الانتفاضة ضد النظام السوري زادت من مشكلات طهران. ويرى "بلينكن" أن المالكي أثبت أنه وطني وسيقاوم إملاءات خارجية، ثم إنه حتى في حال مغادرة كل القوات الأميركية العراق، فإن كتيبة دبلوماسية أميركية قوية ستبقى في العراق، ويفترض أن تضمن استمرار النفوذ الأميركي، إلى جانب مبيعات الأسلحة ومجموعة الاتصال العسكري التي تتخذ من السفارة مقرا لها. المسؤول الوحيد في إدارة أوباما الذي دافع علنا عن ضرورة استمرار وجود عسكري أميركي في العراق هو وزير الدفاع السابق روبرت جيتس. ففي خطاب له في مايو الماضي، قال إن الأمر من شأنه أن يرسل "إشارة قوية إلى المنطقة مفادها أننا لن ننسحب، وأننا سنستمر في لعب دور"، مضيفاً "أعتقد أنه سيكون أمراً مطمئناً لدول الخليج. وأعتقد أنه لن يكون مطمئناً لإيران، وذلك شيء جيد". وقد حث "جيتس" العراق علنا على الإبقاء على قوات أميركية. ولكن "جيتس" لم يعد مسؤولاً، والرسالة الحالية هي: "اللعنة، اتخذوا قرارا ما". وبغض النظر عما إن كانت إيران مستعدة للهيمنة على العراق أم لا، فالأكيد أن تلك ليست هي الرسالة المناسبة للحفاظ على حليف! جاكسون ديل محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبورج نيوز سيرفس"