بتعرض الأسواق الإيطالية لهزة عنيفة خلال الأسبوع الماضي، تأججت المخاوف من احتمال تعثرها عن سداد ديونها، وبذلك تكون الأزمة المالية في أوروبا قد دخلت مرحلة جديدة أكثر خطورة، ليس فقط على الاندماج النقدي الأوروبي، بل أيضاً على تعافي الاقتصاد العالمي. المأساة التي أحاطت الأسبوع الماضي بعملية البيع التي قام بها ثالث اقتصاد أوروبي للسندات، وما صاحب ذلك من صعوبات وعراقيل عليها أن تقنع المسؤولين حتى الأكثر تعنتاً منهم بأن الاستجابة السياسية للأزمة عليها أن تتجاوز الأجندات الضيقة والدوغمائية وتتخلص من الاعتبارات السياسية، والأمل اليوم في أن يسارع المسؤولون الأوروبيون إلى تغيير مسلكهم وإلا سيفقدون نظرة التقدير والاحترام التي خصهم بها صندوق النقد الدولي وباقي الدول غير الأوروبية في مجموعة العشرين على مدار الخمسة عشر شهراً الماضية. وفي هذا السياق، يتعين الإقرار بثلاث حقائق حتى يتحقق النجاح ويخرج الأوروبيون من ترددهم المكلف: أولا لابد من استعادة الثقة في مجمل النظام النقدي لتخطي الأزمة المالية، ذلك أن محاولات تلقين المستثمرين والقطاع المالي درساً لتهوره وانعدام مسؤوليته سيكون مكلفاً للغاية. وقد رأينا كيف جربت الولايات المتحدة هذا الأسلوب فقط لتجني الكارثة. فبعد 12 ساعة من التصفيق الذي قوبلت به واشنطن لتركها سقوط بنك "ليمان برادرز" في دوامة الإفلاس، جاءت النتائج وخيمة على مجمل القطاع المالي الذي تمددت أزمته وانتشرت إلى الاقتصاد، لذا كان البنك المركزي الأوروبي محقاً عندما اعتبر معاقبة الدائنين بتلقينهم دروساً، أو لكسب التأييد السياسي نوعاً من التهور في نظام يعتمد على الثقة، وبالنسبة لمن اعتقد أن إفلاس "ليمان برادرز" كفيل بتلقين السوق درساً بليغاً يعتبر به في المستقبل صدم بأن الحل هو البحث عن مخرج، وليس ترك النظام المالي عرضة للانهيار بعد اتساع رقعة المؤسسات المفلسة. والحقيقة الثانية التي يتعين على الأوروبيين إدراكها أنه لا يمكن لأي بلد غارق في الديون تحقيق ما يكفي من الفوائض المالية لتسديد تلك الديون ودفع الفوائد المترتبة على ذلك للدائنين الأجانب، فالنهوض بأعباء الديون في ظل سعر الفائدة الذي يفرضه القطاع العام، ناهيك عن القطاع الخاص، يضع المزيد من الأعباء على اليونان وإيرلندا والبرتغال يمكن مقارنتها بأعباء تعويضات الحرب العالمية الأولى التي سبق للاقتصادي "ماينارد كينيز" التحذير من تداعياتها في كتابه "التداعيات الاقتصاديات للسلام". أما الحقيقة الثالثة فهي أن قدرة بلد ما على الوفاء بالتزاماته المالية وتسديد الديون لا تعتمد على حجم تلك الديون، أو القدرة على سن سياسات داخلية ملائمة بقدر ما تعتمد على الظرف الاقتصادي العام. فمشاكل السيولة المزمنة التي تُترك دون معالجة تتحول إلى معضلة ثقة تشكك في قدرة البلدان على تسديد ديونها، وحتى البلدان التي تُظهر عافية مالية ملحوظة وقدرة على الوفاء باستحقاقاتها ضمن معدل فائدة قريب أو أقل من معدلات النمو تصبح معسرة في حال ارتفعت معدلات الفائدة، ما يضع مزيداً من الأعباء على كاهل تلك الدول ويؤجج مخاوف المستثمرين والمقرضين في قدرتها على السداد في المدى البعيد، لندخل في حلقة مفرغة مثلما يحدث حالياً بالنسبة لليونان والبرتغال وإيرلندا، مهدداً بالتمدد إلى إسبانيا وإيطاليا. وباختصار لا يمكن الاستمرار في وضع تقدم فيه الدول المقرضة المزيد من الديون إلى بلدان لا تستطيع الاستفادة من أسعار الفائدة المخفضة المطروحة في السوق خوفاً من تعثرها في السداد مستقبلا. فالديون المتراكمة لن تسدد أبداً لأن حجمها لا يشجع تدفق الاستثمارات الخاصة ولا يساعد على النمو الاقتصادي، وما يصر عليه السياسيون اليوم من أن البلدان الغارقة في الديون قادرة على السداد بأسعار الفائدة الحالية باعتبار أن القواعد الاقتصادية سليمة في تلك الدول فهو مجرد خداع للنفس وضرب لمصداقيتهم في الصميم. ولا بد في هذا السياق من اعتراف الدول الأوروبية بأن الديون بوتيرتها الحالية غير قابلة للسداد، وأن عمليات إعادة الجدولة ستصبح ضرورية، رغم أنها لن تساعد لوحدها في سداد ديون اليونان، إذ لا بد من تغيير الطريق بتبني مقاربة تركز على تجنب المخاطرة وإعادة تحفيز النمو الاقتصادي، فضلا عن استعادة الثقة بدل من تأجيل الكارثة وإرجاء لحظة الحقيقة عندما يحين موعد السداد. وكلما سارعت الدول الأوروبية إلى معالجة الوضع استفادت على المدى البعيد وقللت الخسائر، ولا مناص لأي استراتيجية من تضمن العناصر التالية: تأكيد السلطات الأوروبية التزامها بالتضامن كما هو مجسد في العملة الموحدة والوعي بأن تعرض أي اقتصاد أوروبي للفشل يعني فشل الاقتصاد الأوروبي بمجمله. وفي هذا الإطار، يتعين خفض معدلات الفائدة للبلدان المدينة، إذ لا حاجة لفرض رسوم مرتفعة على المخاطر التي تهدد نجاح مشروع الإنقاذ برمته في وقت لا يمكن فيه السماح بالإخفاق. ولا بد من فتح الأبواب أمام البلدان التي تنتهج سياسيات سليمة بالاستفادة من الضمانات الأوروبية على الديون بسعر معقول وعلى مدى زمني مؤجل. هذه الإجراءات من شأنها تقليص الكلفة التي تدفعها الدول الأوروبية المتعثرة لخدمة ديونها كما ستعيد الثقة والاستقرار إلى البنوك الأوروبية، لكن تبقى إشكالية الديون السيادية الخاصة قائمة. وهنا يبدو أن الدائنين أدركوا أنهم لن يستفيدوا شيئاً من انهيار النظام لذا بدؤوا يرسلون إشارات إيجابية حول دعمهم لمقاربة تقوم على تعدد الخيارات وتأخذ في عين الاعتبار معياراً أساسياً للنجاح، وهو قدرة الدول المعنية على خدمة ديونها وفق جدول زمني مريح وبأسعار مناسبة، مع العلم أن هذه المقاربة تسابق الزمن للنجاح، لا سيما بعد المفاجأة الإيطالية التي قبل فقط عشرة أيام لم يكن أحد يتخيل أن تحوم الشكوك حول قدرتها على سداد ديونها، وما لم تعجل الدول الأوروبية بالتحرك لإنقاذ الوضع ستتضاعف الخسائر وستقل الفائدة. لورانس سامرز وزير الخزانة في إدارة كلينتون والمستشار الاقتصادي للرئيس أوباما ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"