لا شك أنّ الظاهرة الحزبية واحدة من معالم الفشل العربي المعاصر في التنمية السياسية، بدءاً من الكيفية التي تم بها التعاطي مع الأحزاب على المستويات الرسمية والاجتماعية، وصولًا لأداء الأحزاب ذاتها وانحرافاتها وأخطائها. ولكن في المحصلة أصبحت لدينا تجربة حزبية عربية معقدة ومتشعبة لها موقعها في المشهد. كان واضحاً منذ ما قبل التحولات الأخيرة في العالم العربي أنّ الأحزاب في تراجع، وذلك مرتبط بتراجع الإديولوجيا عموماً، وهو أمر مرتبط بإفرازات العولمة التي تعزز دور الفرد، وتقلل من حاجته للمجموعات السياسية المنظمة، وتعطيه القدرة على حراك أكبر بمبادرات وقرارات ذاتية، من خلال مجال عام (Public Sphere) للنقاش والتوصل لقرارات وخطط ليتحرك مع أفراد آخرين، في مجموعات سريعة التشكل والتغير والتلاشي، ومرتبط بضعف إنجازاتها الملاحقة التي يتعرض لها أعضاؤها. والآن تبدو الأحزاب العربية التقليدية، سواءً أكانت إسلامية، أو قومية عروبية، أو يسارية، أمام منعطف تاريخي. وإذا ما نظرنا إلى التجربة العالمية، نكتشف بعض السيناريوهات المستقبلية الممكنة، مع الأخذ في الاعتبار أنّ الحزبية ليست ظاهرة موجودة في كل الدول العربية. في العالم المسيحي، نسمع أسماء مثل الحزب المسيحي الديمقراطي، أو المسيحي الاجتماعي، كما في ألمانيا. كما أنّ دولاً مثل صربيا، ومنطقة مثل اسكتلندا في المملكة المتحدة، لديها أحزاب قومية، لها خطاب قومي صاخب لا يخلو من الشعور بالتميز والتفوق. وفي بداياتها، كانت الأحزاب الدينية الغربية تمزج بين الثيوقراطية اللاهوتية، والطائفية. فهي أحزاب دينية تخص طوائف بعينها. ولكن مع الوقت، وبتطور العملية الديمقراطية في سياق نظام ديمقراطي، تراجعت الثيوقراطية والطائفية، لصالح خطاب وبرامج، مع الحفاظ على قدر من الدعوة للسلوك الاجتماعي المحافظ، والتركيز على البعد الثقافي والحضاري للمسيحية. وإذا ما أخذنا في الاعتبار أنّ جماعات الإسلام السياسي العربية فشلت في تحقيق الكثير من الوعود التي قدمتها، وارتكبت الكثير من الأخطاء، وأنّها تشعر الآن بأنّ المجتمع وإن لم يفقد تديّنه الشخصي، فإنّه أصبح أميل لفصل الدين عن السياسة، فإنّ هذه الأحزاب قد تجد نفسها مضطرة لتقديم خطاب أكثر تصالحية مع المجتمع، بعيداً عن خطاب تكفيره، أو اعتباره مجتمع جاهلية، ودون حديث عن فكرة "الحاكمية" التي تعني فعليّاً سيطرة الفقيه أو رجل الدين. وهذا يدفع للتحول إلى إبراز الصبغة المحافظة الاجتماعية للدين، أكثر منها للخطاب الحدي الذي لا يقبل النقاش في تفسيرات تبنتها تلك الأحزاب في الماضي لكل شؤون الحياة اليومية، وهذا سيفتح الجدل في الموضوعات الاقتصادية والاجتماعية، دون ادّعاء وجود حقائق مطلقة يمتلكها شخص أو حزب بعينه، ودون ادّعاء وجود وكيل إلهي تعلو كلمته على المجتمع. (وربما نستطيع اعتبار تركيا نموذجاً للتحول المحتمل). في الأحزاب القومية، رأينا أن الصرب والاسكتلنديين، قرروا بعد تجارب، أنّ الانفتاح على الاتحاد الأوروبي ومنافع الوحدة مع الآخرين، أهم من الفكرة الانفصالية للحصول على كيان قومي نقي، فأصبح الفكر أكثر عقلانية. وهذا ما يتوقع أن يحدث عربيّاً مع نهاية الأحزاب التي تبنت شعارات قومية صاخبة دون برامج عمل، والتي أفرزت الجمهوريات الوراثية المطلقة. إذ ستبقى الفكرة العربية ولكنها ستأخذ تعبيرات سياسية أخرى، ربما أكثر مدنيّة ووفق برامج أكثر عملية.