وصل القتال في ليبيا إلى مرحلة لم يعد فيها أي من الطرفين قادراً على حسم النتيجة لصالحه. فقد أثبت القذافي أنه أكثر صلابة بكثير مما توقع خصومه، كما أنه أظهر حدود ما يمكن تحقيقه من خلال ممارسة القتال عن بعد. وإذا ما قرر "الناتو" إنهاء هذه المواجهة من خلال مهاجمة قوات القذافي باستخدام قدر أكبر من القوة، فليس هناك سوى دولة واحدة في العالم (تعرفونها بالطبع) تمتلك القوة المطلوبة لتنفيذ ذلك. إلى هنا كل شيء واضح، لكن الشيء الذي ما يزال غير واضح هو نوع الترتيبات السياسية التي ستنتجها الحملة المناوئة للقذافي. إليكم أحد الاحتمالات: أن تتعرض قوات القذافي التي تتلقى ضربات عنيفة لا هوادة فيها من "الناتو" للتقلص، ومن ثم التفكك، وأن يطلق هذا موجة من حالات الانقسام والاستقالات، بالإضافة إلى طوفان من حالات الفرار من جانب الجنود وأنصار النظام، مما يؤدي إلى انفجاره من الداخل، وتمهيد الطريق لتولي حكومة انتقالية تديرها المعارضة الحكم بما يؤدي في نهاية المطاف لنظام ديمقراطي. وبالكاد يمكن القول إن هذا السيناريو وشيك أو محتمل، وحتى إذا ما حدث، فسوف يعني أنه سيكون هناك مزيد من القتال ومزيد من القتلى، وسيكون المدنيون وقوات المعارضة غير المنظمة، هما أصحاب النصيب الأكبر من ذلك. نعم ليس هناك خلاف على أن موت القذافي (المادي أو السياسي) لن يتم إلا من خلال قدر كبير من المعاناة. وهذا الموت إذا ما حدث، فسيكون هو العامل المساعد الذي سيدفع مساعدوه للإدراك -بعد أن تأكدوا من نهايته- أن أفضل ما يمكن أن يفعلوه هو السعي من أجل السلام، وعقد أي قدر لازم من الصفقات، خوفاً من مصير مماثل. والدمار الذي تحقق من خلال المعارك في البنية الأساسية، وانقطاع صادرات البترول نتيجة لتلك المعارك، وزيادة تدفق المهاجرين للخارج هرباً من الجحيم... كلها عوامل تعني أن ليبيا سوف تحتاج إلى قدر كبير من الرعاية، والاهتمام، بل وإقرار النظام بمجرد أن يتوقف القتال. والأجانب الذين سيتم استدعاؤهم لتوفير كل ذلك، سوف يضطرون للعمل في بيئة خطرة لوقت طويل حتى تنتهي الفوضى، وتعود الأمور إلى الحالة الطبيعية. هناك سيناريو ثان: أن يقوم كبار مسؤولي نظام القذافي وكبار قادته العسكريين بالإطاحة به والدخول في مفاوضات لتقاسم السلطة، مع الحصول على ضمانات بعدم المحاكمة، وعلى حق المشاركة في السياسة. هذا الاحتمال لن يحدث بسهولة، ويحتاج إلى أشخاص أقوياء للغاية حتى يتمكنوا من إطاحة القذافي، علاوة على أن المعارضة سوف تحجم عن الدخول في اتفاقية معهم لتقاسم السلطة، أو لعمل ترتيبات سياسية مؤقتة، وحتى إذا ما حدث ذلك، فإنه سرعان ما سينهار. السيناريو الثالث: ليبيا المنقسمة. وبموجبه يُحكم القذافي سيطرته على غرب ليبيا، بينما تتبلور حكومة للمعارضة في الشرق. وكان فريد زكريا، المحلل السياسي المعروف في محطة "سي. إن. إن"، قد أشار إلى هذا السيناريو كمحصلة ممكنة التحقق في ليبيا، وقال إنه لن يكون محصلة سيئة بالضرورة، لأنه يعني أن القذافي سيحكم مساحة أقل كثيراً مما كان يحكم من قبل، وسوف يسيطر على كميات أقل كثيراً من النفط الليبي. والواقع أن هذه المحصلة التي قد تبدو نوعاً من التنبؤ المفرط في تفاؤله، ليست بالشيء المستحيل، إذا ما تأملناها جيداً في مجال السياسة. ومع أن قسمي ليبيا المنفصلين قد لا يتعايشان في تناغم، فالأمر المؤكد أنهما سيتجنبا الحرب، لأن قادتهما، وإن لم يكونوا بالضرورة مستنيرين، سوف يتجنبون الحرب بعد أن ذاقوا ما يكفي من ويلاتها. بيد أن الشيء المؤسف هو أن قدرة المتفائلين على التنبؤ بالتقسيم الحميد (لليبيا في حالتنا هذه) عادة ما تكون أقوى كثيراً من قدرة السياسيين على تجسيد هذا التقسيم الحميد على أرض الواقع. فالخبرة التاريخية تبين لنا أن التقسيم عادة ما يكون عملاً دموياً، خصوصاً عندما تكون الأطراف المتنازعة مسلحة، وتكره بعضها بعضاً. لذلك فلا تتوقعوا اطلاقاً بإحسان في ليبيا، شبيهاً بذلك الذي وقع بين التشيك والسلوفاك. وحتى إذا ما تم فرض التقسيم من الخارج، فإن ذلك التقسيم سوف يترك معظم نفط ليبيا تحت سيطرة القسم الشرقي، وهو وضع لا يمكن قبوله بسهولة القسم الآخر الذي تحكمت قبائله بالنظام السياسي تحت حكم القذافي، والتي لن تقبل لنفسها بوضع تابع بالتأكيد. على أي حال يمكن القول إن السيناريوهات الثلاثة المذكورة ليست كل ما يمكن تخيله لمستقبل ليبيا، بل هناك صور أخرى يمكن تخيلها لمستقبل هذا البلد. لكن هذه السيناريوهات، مع ذلك، هي الأكثر ترجيحاً على ضوء معطيات الواقع. وكل سيناريو من هذه السيناريوهات ينطوي على مزيج من تغيير النظام، والثورة، وبناء الأمم تحت الرعاية الغربية، مع الأخذ في الاعتبار حقيقة أن غبار المعارك لن ينقشع سريعاً بل سيكون هناك الكثير منه. أما الذين يفكرون في احتمالات أخرى، فهم في رأيي، غارقون في الوهم وخداع الذات. ولست أدري سبباً يدفع البعض منا لأن يكون كذلك. راجان مينون أستاذ السياسة العامة بجامعة سيتي -نيويورك -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. إنترناشيونال"