يمكن اعتبار أحداث ما بات يسمى "ربيع الثورات العربية" بوصفه انتفاضات أو احتجاجات كسرت حواجز الخوف، ومنحت الشعوب مساحات تتحرك فيها لإبداء الرأي، ومحاسبة المسؤول مهما علا منصبه، والشكوى على الظالم بل والتنديد به، والمشاركة في النظام السياسي، وتقديم المشورة، وإشراك الأحزاب السياسية والقوى النقابية. وبذلك، فقد دخلت الشعوب في حقبة جديدة لا تخاف فيها القادة ولا أجهزتهم الأمنية، بل تعمل في ميادين التغيير الجذري. ورغم كل ما سبق، فإن مسألة كسر حاجز الخوف لدى الشعوب العربية تبقى هي النقطة المركزية. وعلينا هنا التفريق بين حاجزين من الخوف تم كسرهما حتى الآن: أولهما تجلى في نجاح الشعوب العربية بكسر حاجز الخوف من أنماط الحكم السائدة، وثانيهما كسر أو تحريك حاجز خوف الأنظمة على مصالحها أو من إقدامها على الإصلاح. ففي الحالة الأولى اتخذ الوضع شكل سلطة رئيس على رعاياه، أي انفراد فرد أو مجموعة ضيقة بالحكم والسلطة المطلقة دون الخضوع لقانون أو قاعدة بل ودون النظر إلى رأي المحكومين. سلطة مستبدة تمارس الحكم دون أن تكون خاضعة للقانون الذي يمارس فقط (ضد) الشعب. ودون أن ننسى أن الحكومة المستبدة مهما كان شكلها هي في المحصلة كارثة على نفسها وعلى مجتمعها. فهي حكومة تبرر الوسيلة وصولاً للغاية، وتحارب النصوص التي لا تتماشى مع استبدادها، وتحرف الكلم عن مواضعه، وتحاول الظهور بمظهر ديمقراطي. حاجز الخوف الأول، نجحت الشعوب العربية في كسره بعد مللها من الوعود والخطابات والبرامج التي لا تأتي بشيء. فالمسألة عندها لم تعد تستدعي السكوت والصبر بعد أن تحولت الشعوب إلى ضحايا، وصارت البلاد تنوح بسبب نهبها ونهب خيراتها وثرواتها. ومع انكسار هذا الحاجز، بات الحديث -حتى عند بعض القادة المداهنين - عن "الروح الثورية" حديثاً جميلاً مرغوباً، علما بأن "الاحتجاجات" في العالم العربي أكدت أن هذه الروح لم تمت يوماً، بل كانت في سبات عميق استجمعت بعده قواها ودقت جدران الخزان بنفسها. واثر انكسار حاجز الخوف رقم (1)، جاء دور الحكومات التي سعت لكسر حاجز خوفها في التعامل مع شعوبها. وسواء أكان تأثير كسر حاجز الخوف الأول على الحكومات (إقناعاً) لضرورة التغيير أو (خوفاً) من إسقاط الأنظمة وإزاحتها عن كرسي الحكم، فإن خوفها تجلى بلجوئها إلى الحلول الأمنية (بكل مقارفاتها) خوفاً (وحماية) لاستبدادها وفسادها. وبعيداً عن خصوصيات كل بلد وشكل الاحتجاجات والمطالب، كان لابد للطرف الحاكم (نظرياً على الأقل) من كسر حاجز خوفه بالإصلاح الحقيقي دون اللجوء إلى مزيد من القمع للمظاهرات المعارضة وتحريك مظاهرات التأييد السلمية أو حتى المبادرات الكلامية. لذلك فإنه فعلى بعض دول العالم العربي التي لم تقم فيها ثورات بعد، إدراك أن مصلحتها ومصلحة شعوبها هي في الإصلاح، ما دام هناك وقت يخدمها. لقد انكسر حاجز الخوف الذي شكل أساس بقاء كثير من الأنظمة العربية، وما عاد يجدي سوى دخول القائد (الذي يتوجب سقوط حاجز خوفه وخوف أعوانه من الإصلاح) في حوار وطني أساسه الاستماع وتبادل الرأي ومشاركة الجميع في الشأن العام، مع إعادة بناء مشروعية السلطة عبر انتخابات حرة، وإطلاق الحريات بأنواعها، ومعالجة انتهاكات حقوق الإنسان وعلى رأسها الفساد، ودعم قدرات المجتمع المدني لمراقبة إصلاح المؤسسات العمومية، خاصة القضاء والأمن، وإعادة بناء المجتمع السياسي ومكوناته الحزبية. والحقيقة أن ذلك كله يصب في صالح كلا الطرفين: الشعب والنظام. عندها لن تنجح قوى غربية باحتواء أي بلد عربي، ولن تجد شعباً عربياً خانعاً، أو نظاماً ضعيفاً يتطلع إلى حلفاء الخارج لحمايته من الداخل. اليوم، وبعد انكسار حاجز الخوف الشعبي، وتحريك حاجز الخوف عند الأنظمة، دخل العالم العربي مرحلة جديدة لن تقتصر على تونس ومصر، وهي في المحصلة مرحلة انتقال ديمقراطي بين ثورات وإصلاحات، عادت فيها مفردات الفكر القومي إلى الحضور بقوة: الثورة، الحرية، السيادة، والوحدة العربية. إنها رياح تغيير تؤسس لشرعية عربية جديدة: "الشعب مصدر السلطات"، ذلك الشعب الذي نجح عبر "عصف ثوري" رائع في إدخال العرب القرن الحادي والعشرين عبر بوابة العام 2011، بعيداً عن الجمهوريات الاستبدادية وتحالفها مع الفساد! ومع تأكيدنا على ضرورة منع الغرب من محاولة استغلال هذه الثورات لتحقيق أهدافه، ومساعي بعض الأنظمة محاولة إعادة إنتاج نفسها عبر إصلاحات شكلية، وتغيير في الوجوه، والكشف عن جزء من الفساد... فإنه لابد أن نشدد على خصوصية كل بلد عربي، وأنه لا يمكن إسقاط الثورات بالمظلات الهوائية من السماء! فثورتا تونس ومصر السلميتان، تختلفان عن ما يحدث في ليبيا. ففيما نجحت الثورتان الأوليان، وبنهج سلمي لا غبار عليه، جاء التدخل الأجنبي في ليبيا ليبعثر الأوراق، ويصيب الشعوب العربية بغصة يتمنى الجميع أن تزول سريعاً. فمن جهة يتبع الغرب مصالحه دائماً، ومن جهة ثانية، ليس من المفروض السماح للأجنبي بحل مشاكلنا، بل المفترض أن لدينا جيوشاً وثروات وأسلحة وقيادات قادرة على أخذ زمام المبادرة وحل مشاكلنا بأنفسنا دون الاعتماد على الأمم المتحدة أو "الناتو". ونختم هنا بما قاله "روبرت دي كابلان"، الزميل البارز لمركز الأمن الأميركي الجديد، في مقال حديث: "الآن، كل هذه الانتفاضات تبدو بعض الشيء، كما حدث في أوروبا الشرقية عام 1989. لكن، وكما حدث في أوروبا الشرقية، سوف ينتهي حال كل بلد عربي بشكل مختلف قليلا. ففيماً كانت بولندا والمجر مسارات سهلة نسبياً للرأسمالية والديمقراطية، غرقت رومانيا وبلغاريا في فقر مدقع لسنوات، وعانت ألبانيا نوبات عرضية من الفوضى، فيما انحدرت يوغوسلافيا إلى الحرب الأهلية التي قتل فيها مئات الآلاف من الناس. أما في العالم العربي فهناك وسائل أكثر تنوعاً من أوروبا الشرقية، وعلينا أن نلتفت لتفرد حالة كل بلد، سياسياً وتاريخياً".