هذا الأسبوع، وصل رئيس الاستخبارات العسكرية الباكستانية الليفتنانت جنرال(فريق) "أحمد شوجا باشا" إلى واشنطن لإجراء سلسلة من المشاورات المكثفة. وتأتي هذه الزيارة في أعقاب شهور وصلت العلاقة الأميركية- الباكستانية خلالها إلى أدنى مستوياتها. فالقضية المعروفة بقضية "رايموند ديفيس" كانت عاملًا مساعداً على حدوث تدهور سريع في العلاقة، بحيث لم يعد الموضوع دبلوماسياً بحتاً فحسب، ولا لعبة جاسوسية يتبادل فيها الطرفان الربح والخسارة فقط. وإذا لم يكن السبب في ذلك الأحداث الثورية في الشرق الأوسط، فهناك على الأقل أحداث أخرى مثل "التسونامي" الياباني، وجدل الميزانية الدائر في أميركا تكفي في حد ذاتها لجعل الأميركيين أكثر إدراكاً بأن الركائز الأساسية للاستراتيجية الأميركية في باكستان، قد باتت في خطر. وكانت إدارة أوباما قد دأبت - على نحو روتيني - على الحديث عن الأهمية الاستراتيجية لباكستان، ولكن على الرغم من كل ما كانت تقوله في هذا الصدد، فإن مراجعاتها لسياستها المعروفة باسم" أفباك"(مزج لكلمتي أفغانستان وباكستان)، كانت تركز على "القاعدة" وعلى الحرب في أفغانستان أكثر مما كانت تركز إصلاح حال علاقتها مع باكستان. ومن هنا يمكن القول إن الأزمة الحالية توفر فرصة مهمة للتغيير... وأن أي استراتيجية أميركية بخصوص باكستان تجد نفسها الآن مطالبة بضرورة تحقيق الأهداف الثلاثة الآتية: الأول، العمل على القضاء على شبكات الإرهاب الدولية، وتقليص قدرة الجماعات الإقليمية المسلحة على العمل، وكذلك تقليص الدور الذي تلعبه الأيديولوجيات المتطرفة العنيفة في المجتمع الباكستاني. الثاني، العمل على إنهاء، أو المساعدة على إنهاء، سياسة باكستان طويلة الأمد القائمة على دعم المسلحين في أفغانستان، كوسيلة لتحقيق المصالح الباكستانية في ذلك البلد، وفي الهند. الثالث، وجوب مساعدة باكستان على تحقيق استقرارها الطويل الأمد من خلال النمو الاقتصادي والإصلاح. والفهم الصحيح لأسباب الأزمة الأخيرة سوف يساعد لا شك على إرشاد الجهود المستقبلية. ويمكن القول إن هناك أربعة أسباب متداخلة للأزمة: الأول، وهو سبب مفهوم للكافة بدءاً من الجنرالات، وحتى المواطن العادي في الشارع، ويتمثل في غضب باكستان من الانتهاك الأميركي المستمر لسيادتها الإقليمية، وهو غضب يشمل المجتمع الباكستاني ويجعل المشاعر المناوئة لأميركا شيئاً ملحوظاً، ولا يمكن إنكاره. وهذا الغضب المحتدم يجعل من الصعب على القادة الباكستانيين تبرير أي تعاون مع الجانب الأميركي أمام شعبهم، حتى مع إدراكهم أن هذا التعاون سوف يعود على بلادهم بالنفع. الثاني، ترجع الأزمة أيضاً إلى أن القادة الباكستانيين يفكرون في فرض شروط جديدة مقابل التعاون الذي يقدمونه، للاستفادة مما يعتبرونه لحظة الانكشاف الأميركي. وليس هذا بالشيء الجديد على باكستان في الحقيقة، إذ كانت قد مارست هذا الأسلوب لابتزاز المعونات من الولايات المتحدة إبان الحرب الباردة مستفيدة في ذلك من موقعها الجغرافي المهم. بمعنى آخر سوف يستغل القادة الباكستانيون اللحظة الحالية لرفع الأتعاب مقابل الخدمات التي يقدمونها، ويبدو أن الولايات المتحدة على استعداد للدفع، ولكن داخل حدود معقولة. الثالث، الأزمة الحالية لها أيضاً علاقة باعتقاد باكستان بأن الولايات المتحدة، تستخدم تكتيكات على رأسها ضربات الطائرات التي تطير من دون طيار، لضرب وإضعاف حركات مسلحة كانت تعمل لصالح الاستخبارات العسكرية الباكستانية في الماضي، وكانت وما تزال تتلقى أموالًا من خزائنها، ولا ترى السلطات في إسلام أباد أنها- الحركات - تمثل تهديداً لها( شبكة حقاني ومجموعة حافظ جل بهادر). الأسوأ من ذلك أن قضية "رايموند ديفيس" قد كشفت عن المحاولات التي تبذلها الولايات المتحدة للتجسس على جماعة "لشكر طيبة"، وهي جماعة وجهت إليها أصابع الاتهام بشأن الهجمات التي شنت ضد مومباي عام 2008، وهي جماعة ترتبط بعلاقات وثيقة بالاستخبارات العسكرية الباكستانية. السبب الرابع، والأكثر إثارة للانزعاج، إن تلك الأزمة تعكس مدى عدم اليقين الذي تشعر به باكستان تجاه نوايا الولايات المتحدة واستراتيجيتها في المنطقة. وأخشى ما يخشاه الباكستانيون في هذا السياق، هو أن تنتهي الحرب الدائرة في أفغانستان على نحو قد لا يكون في صالحهم. فاستراتيجية زيادة عدد القوات، وزيادة الجهد الدبلوماسي، التي تتبناها الولايات المتحدة في أفغانستان على سبيل المثال لا الحصر، أدت إلى زيادة درجة التوتر بين واشنطن وإسلام أباد، من دون أن تحقق أي هدف استراتيجي واضح. من ناحية أخرى تنظر باكستان إلى الحرب المتواصلة التي يشنها الجنرال"ديفيد بترايوس" على أنها حرب ستؤدي لاستنزاف قوات "طالبان" التي يعتبر البعض منها من ضمن حلفاء إسلام آباد القدامي. هذا من جهة، ومن جهة أخرى تنظر باكستان إلى الجهود التي تبذلها وزيرة الخارجية الأميركية للتصالح مع "طالبان" باعتبارها جهداً يائساً لإيجاد حل ينقذ ماء وجه أميركا ويساعدها على إعادة قواتها إلى الوطن في وقت أسرع. في الحالتين، لا ترى إسلام آباد في السياستين ما يفيد أن الولايات المتحدة تحاول الاهتمام برعاية مصالحها، وهو ما يساعد على مفاقمتها الهواجس التي تراودها بأن الولايات المتحدة سوف تسحب قواتها، وتترك أفغانستان نهباً للفوضى وهو ما يمكن أن تستغله جارتها التقليدية الهند في التغلغل في ذلك البلد وتهديد أمنها القومي. مع كل هذه الشكوك يعتقد بعض الباكستانيين في الوقت الراهن أن المضار التي تلحق بهم من خلال التعاون مع الولايات المتحدة تفوق المنافع بكثير. فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة تقدم لباكستان مساعدات سخية في صورة مليارات الدولارات، في المجالين العسكري والمدني، فإن تلك المساعدات للعديد من الأسباب لم تحقق للولايات المتحدة ذلك القدر من النفوذ، ولا ذلك القدر من الثقة لدى باكستان الذي يسمح بتعزيز التعاون بين البلدين. يعني هذا أن الولايات المتحدة مطالبة بمراجعة استراتيجية المساعدات التي تقدمها لباكستان، والعمل على أن تؤدي تلك المراجعة إلى تشجيع الاستثمارات الخاصة الأميركية والدولية في باكستان على أساس أن التجارة والاستثمارات، وليس الاستثمارات المباشرة، هي الطريقة الوحيدة لتحقيق تحول جذري في الاقتصاد الباكستاني الضخم" في المدى الطويل. أما الخيار البديل، وهو أن تيأس الولايات المتحدة من التعاون مع باكستان وتسعى للحصول على شركاء إقليميين آخرين (كما اقترح البعض في الكونجرس)، فهو خيار ينطوي على مخاطر أكبر. لذا يجب على الولايات المتحدة أن تفكر في الأمر على النحو التالي: إن الطريق لتحقيق شراكة ناجحة مع باكستان، سوف يكون طويلاً، ومرهقاً، ومحبطاً أحياناً، وباهظ التكلفة دائماً، ولكن تطوير هذه الشراكة ورعايتها، هو من دون شك أفضل طريق لتفادي تبعات مستقبل تكون فيه باكستان المسلحة نووياً بعدد سكانها الذي سيصل إلى 200 مليون نسمة، عرضة لعدم الاستقرار، وفريسة لجماعات الإرهابيين، ومقتنعة تماماً بأن استخدام مسلحين يعملون كوكلاء لها هو الوسيلة الأفضل لحماية مصالحها في المنطقة. دانيال ماركي زميل رئيسي بمجلس العلاقات الخارجية الأميركي لشؤون الهند وباكستان وجنوب آسيا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفس"