المقال الذي كتبه كل من هنري كيسنجر وجيمس بيكر، ونشرته "الاتحاد" يوم الأحد الفائت، بعنوان "المثالية البراجماتية: خطوط إرشادية"، قد يكون تعبيراً عن تحول فكري مهم في نظرية العلاقات الدولية. إذ أن كيسنجر هو أحد أهم روّاد النظرية الواقعية في العلاقات الدولية. ولأنّه يرتبط في أذهان العرب بأدائه عندما كان وزيراً للخارجية الأميركية بكونه مناهضاً للعرب وبدوره المساند لإسرائيل، فإنّ كثيرين صنفوه على أنّه من "المحافظين الجدد". لكن الحقيقة أنّه أحد أهم خصومهم الفكريين. وبالمثل يستغرب عرب كثيرون أنّ "المحافظين الجدد"، يصنفون وفق مصطلحات العلاقات الدوليّة بأنّهم من "المدرسة المثالية"، (التي تحدث عنها المقال المذكور)، وذلك بسبب تأييدهم الحرب. الفيصل بين المثالية والواقعية، هو مسألة التدخل في شكل النظام السياسي والقيم الثقافية والاجتماعية في دول أخرى. و"المحافظون الجدد" أرادوا فرض القيم الأميركية عالمياً، وفرض الديمقراطية والإصلاح، على اعتبار أنّها تنتج أنظمة ومجتمعات ترفض الإرهاب، ولأنّ الأنظمة الفاسدة برأيهم بيئة خصبة لقوى التطرف التي تتبنى مناهَضةَ الأميركيين. بينما المدرسة الواقعية الكلاسيكية، لا تهتم بما يحدث في الدول الأخرى، ولا يهمها إذا ما كانت الأنظمة الحليفة قمعية وفاسدة، طالما أنّ سياساتها الخارجية لا تتعارض مع المصلحة الأميركية. وبهذا فإنّ "المثاليين" يؤيدون التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أكثر مما يؤيده "الواقعيّون". أحد "المثاليين" السابقين هو فرانسيس فوكوياما، الذي كان من منظري المحافظين الجدد، إبّان حرب العراق. ثم اكتشف أنّ فكرة نشر الديمقراطية قبل بناء دول قوية أمر خاطئ. وأنّ المحافظين الجدد عندما أسقطوا النظام في العراق وأفغانستان، لم يكن لديهم تصور أو دراية بعمليات بناء الدول، وافترضوا أن تستقيم الأمور بمجرد سقوط الأنظمة القائمة. وقال فوكوياما عام 2006 إنّ المحافظين الجدد ادّعوا أنّهم يستلهمون أفكار الرئيس الأميركي السابق ويلسون الذي دعا زمن الحرب العالمية الأولى لدور أميركي في نشر الحرية والديمقراطية حول العالم، وكان رائد المدرسة الليبرالية في العلاقات الدولية، لكن أنصاره يرفضون أن يدّعي المحافظون الجدد أنّه أستاذهم، لأنه لم يؤيد استخدام القوة العسكرية لتحقيق أهدافه، كما يفعلون هم اليوم. واقترح فوكوياما مدرسة أسماها "الولسونية الواقعية"، تتضمن اهتماماً بما يحدث في الدول الأخرى، لكن بالتركيز على بناء الدول وتقليل استخدام الأداة العسكرية. طرحُ فوكوياما كان خطوة من المثالية نحو الواقعية، وخطا كيسنجر وبيكر، خطوة من الواقعية نحو المثالية. وطرحهما، وقبولهما وتنظيرهما للتدخل في ليبيا، أشبه بزيادة تقبل فكرة التدخل في الدول الأخرى، مع وضع ضوابط وتصورات محكمة لمراحل ما بعد الحرب. وهذا يعني أنّ قطاعات مهمة من صنّاع الفكر السياسي الأميركي زادت من قبولها لفكرة التدخل. فهل سيكون مثل هذا الطرح، "المثالي البراجماتي" أو "الواقعي الأخلاقي"، القائم على تدخل نشط في دول العالم، ولكن بمحددات جديدة، هو مذهب أوباما في ولايته الثانية؟