كم هو رائع هذا الغرب وأنا أنظر لمندوبيه ووزراء خارجيته في مجلس الأمن وبعضهم يرفع يديه موافقاً على قرار من صُنعه (لنصرة) الثوار العرب وحقوق الإنسان في بعض الدول العربية، التي تشهد انتفاضات سلمية حسب المعايير الدولية وحسب وصفه. كان آخر منظر عجيب يذكرني بأيام الاستعمار القديم حماس بريطانيا وفرنسا وأميركا لاستعمال القوة ضد النظام الليبي المتوحش حسب وصف الغرب للحالة في شمال أفريقيا؛ في ذات التصويت على قرار منع الطيران فوق ليبيا امتنع نصف العالم تقريباً عن تأييد القرار: الصين والهند وروسيا والبرازيل وألمانيا، وبقيت الدول الاستعمارية القديمة ومعها تابعون بالتزكية أو بالإجبار مؤيدين للقرار الذي جاء بالأغلبية. يا له من قلبٍ رحيم هذا الغرب، وهو يشعر بأنات الليبيين المصدومين من بشاعة ردة فعل نظامه. لم يكن هذا الحماس لأجل النفط، بل من أجل الحقوق الإنسانية العالمية ومعايير حقوق الشعوب ... هكذا قال الغرب وبشكل مضحك فيه من السخرية ما فيه. يا له من قلب غربي رحيم: البلاد التي عاثت فساداً وقتلاً متوحشاً في شمال أفريقيا وفي العراق وأفغانستان تتعاطف الآن مع الشعوب المقهورة وتطالب بالاستماع لما تريد! من ساعد على إنشاء وتسليح وتقوية إسرائيل... الدولة الاستعمارية الوحيدة الباقية في هذا العالم، هو نفسه ينتصر الآن لحقوق الإنسان في ليبيا! ألم يلحظ القارئ الكريم أن التقسيم والتدخل العسكري بحجة حقوق الإنسان لا يطبقان - تقريباً - إلا على المسلمين والعرب، قُسمت فلسطين حتى يجد الإسرائيليون وطناً يحمي حقوقهم الإنسانية، وأُخِذَ قسم من إندونيسيا لخدمة الإنسان المختلف عرقياً ودينياً عن الأغلبية هناك، وقسمت السودان بحجة اضطهاد المسلمين الشماليين العرب للمسيحيين والزنوج الجنوبيين، وساعد الغرب بطريقة أو بأخرى على تقسيم (الدويلة) الفلسطينية لتكون ربع دولة في الضفة الغربية وربع دولة في غزة. اليمن في الطريق إلى التقسيم بين شمال وجنوب وقبائل متناحرة، وكان المخطط في البحرين - الذي يمثل الحالة الخليجية - تسري عليه نفس قواعد الانشطار العرقي حيناً، والطائفي المذهبي حيناً آخر، لولا تدخل الحكماء وبنادقهم. وسيأتي الدور على سنة وشيعة لبنان ومعهم مسيحيو 14 مارس أو 8 مارس، وأقباط مصر سيطالبون بتدخل دولي لحمايتهم ولو بعد حين، وها هي الأخبار تأتي من سوريا منذرة بما سبق وقيل لنا. وفي داخل كل هذه الفوضى الخلاقة تبقى إسرائيل تنعم بالهدوء والدعم والنمو، فهي جزء من واقع عربي يتفتت لصالح مستقبل في علم الغيب، وفي داخل هذا الواقع دولة إسرائيل الإنسانية والديمقراطية ومنارة حقوق بني البشر في منطقة همجية لا تحضُّرَ فيها إلا العرق الذي اصطفاه الله من العالمين ... كما يزعمون ! كيف تحولت الهجمة الاستعمارية القديمة بمدافعها وأساطيلها وطائراتها وجنودها إلى هجمة ديمقراطية إنسانية لمساعدة الشعوب المقهورة الراغبة في السلام مع النفس ومع الجيران؟! مع قيام الأمم المتحدة وإعلان حقوق الإنسان وخلق واقعٍ جديد تفرضه وسائل الإعلام والاتصال الحديثة وسقوط الشيوعية والأحلاف التابعة لها، لم يعد في قدرة العالم الغربي الاستعماري أن يبرر التدخل العسكري السافر كما في القرون الماضية، لم يعد أمامه إلا لباس حقوق الإنسان وحماية الأقليات سبباً في تدخله المرفود بالرغبة في الاستحواذ على المعادن ومصادر الطاقة والثروات الطبيعية المختلفة الأخرى، ولم تكن حالة العراق في سنة 2003 إلا حالة استثنائية في الشكل مع توافق في المقاصد الإنسانية النهائية، وقبل احتلال العراق كانت هناك حملة سياسية وإعلامية جبارة لإقناع العالم بأن (صدام) يملك مرةً أسلحة جرثومية وكيميائية، ومرةً لأنه يساعد تنظيم "القاعدة"، وفي حال تهافت تلك الأسباب أمام العالم، فهناك سبب آخر جديد قُدم وهو أنه يقمع شعبه وأنه ديكتاتور في وسط نعيم ديمقراطي! أثمرت تلك الهجمة المبرمجة الدبلوماسية الإعلامية إلى نتيجة كارثية على العراق والمنطقة: احتلال سافر نُسفت من خلاله سيادة البلد المحتل وأعطي الاحتلال كامل الحرية في التصرف ببلد الرافدين، بدايةً من تراثه الإنساني في المتاحف، وحتى أنواع الأحذية التي يلبسها الناس هناك واستخِدمَ واحدٌ منها في قذف رئيس الدولة المحتل بعد واقعة الغزو بأربع سنين تقريباً؛ كانت الحالة الأفغانية سابقة للحالة العراقية مع تبرير أقوى ألاَ وهو مطاردة الزعماء الإرهابيين الذين خططوا لـ 11 سبتمبر 2001م ما قبل ذلك وبعده، لم يكن الإخراج المسرحي للتدخل العسكري في الشؤون الداخلية للدول الأخرى إلا صور متشابهة: يقوم بعض المتظاهرين بالتحشد والمناداة لإسقاط النظام في هذا البلد أو ذاك، ثم طلقة أو طلقتان يصاب فيها بالتأكيد عديد من المتجمهرين في وسط شوارع بلاد الانقسامات العرقية والطائفية والقبلية، ومن لم تعرف معنى ومصطلح الديمقراطية من قبل، ثم يأتي بعد ذلك الإملاء الدبلوماسي بأن يحترم النظام العربي المعني حقوق بني الإنسان والمعايير الحقوقية الدولية، ثم تكر السبحة فهذا القائد يفر وذاك يتنحى خوفاً من مجلس الأمن القومي الأميركي المتصل ليلاً ونهاراً مع قادة الجيش والأمن في بلاده، وقائد آخر يرفض بعناد الأمر الذي يحول (فجأة) المتظاهرين سلمياً إلى جنود يعرفون كيف يطيرون بالطائرات ويقذفون بالصواريخ الراجمة، وإنْ لم يستطع من يطلق عليهم الغرب بالمتظاهرين سلمياً ويطلق عليهم عدوهم الداخلي بالعملاء، إن لم يستطع هؤلاء أن يتحكموا في بلاد النفط والمواقع الاستراتيجية والأسواق الشرائية، فإن طائرات (الحلفاء) جاهزة لفرض الديمقراطية من نوع كروز وتوماهوك، والباقي يترك لمخيلة المتابع! بعد هذه الحالة لا يمكنني شخصياً التفريق بين (كرزاي) في أفغانستان، و(الجلبي) في العراق، وبين المجلس الانتقالي في ليبيا، ما الفرق بين هذا وذاك؟ ولعل من المصائب الكبرى لبلاد الإسلام والعروبة أن يكون الخيار الوحيد للشعوب هو جلاد وطني أو استعمار مكشوف أو مقنع بديل! الإنسانية الغربية وتعاطفها مع الشعوب المقهورة في عنفوانها هذه الأيام برزت أيام كان الرئيسي السوداني يعارض انفصال السودان، فتم إلباسه قميص المذنب عقاباً له على جرائم الحرب التي أمر بها أو وافق عليها كما يزعمون، وقد نُزعَ عنه القميص ذاته بعد إعلانه انفصال جنوب وشمال السودان مباشرة ! الزعيم الليبي الذي هو عنوان الأخبار حالياً كان إرهابياً في أوائل التسعينيات وما قبل ذلك، وفرض عليه حصار شديد ومقاطعة مهولة، ثم أصبح منذ 2004م قائداً فذاً وعبقرياً تخصص له أرضية في العاصمة الفرنسية لنصب خيمته المشهورة، ويسمح للفتيات الجميلات من عارضات الأزياء لسماع محاضرته في روما، وتأتي وزير الخارجية الأميركية إلى بيته الذي قصفته الطائرات الأميركية في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي تأتي لأخذ "البرَكة" البترولية منه. هذا القائد هو حسب المعايير الغربية يمثل خطراً (الآن) على شعبه والظاهرة الديمقراطية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. في نفس الوقت الذي يُجاهر بهكذا تصور نحو ليبيا وزعمائها تقصف الطائرات - بلا طيار - المدنيين في أفغانستان، وتخرج لنا الصحف والمواقع الإخبارية صور تمثيل الجنود الأميركيين بموتى أفغانيين في ذات الوقت الذي تزدحم مشافي غزة من جثث أطفالها بفعل القصف الإسرائيلي. الإنسانية الغربية الآن في أعلى درجاتها من التيقظ، وحالما تشعرون وتشاهدون هذا فعلى الجميع في منطقتنا رؤية الخطوط البيضاء التي في السماء من جراء التحليق المرعب للطائرات (الإنسانية) الغربية، وعلى الجميع سماع الدوي بعد ذلك ورؤية أعلام الديمقراطية حسب معايير واشنطن وباريس ولندن، أعلام ترفع في وسط بلاد دمرت أو قسمت، فلا هي حظيت بأمان الطغاة المحليين النسبي القديم، ولا نالت خبز طغاة الخارج وظِلالهم ونسخهم المشبوهة في الداخل... وهنا المحنة وتوابعها.