الدمار الذي أحدثه الزلزال العنيف الذي ضرب اليابان، ثم موجات المد العارمة (تسونامي) يستحيل قياسه سواء على المستوى البشري أو المادي. ولكننا نستطيع رغم ذلك أن نبدأ بتقييم تأثيراته الجانبية المحتملة على بقية آسيا وغيرها من الكيانات الاقتصادية في مختلف أنحاء العالم. النظرة الضيقة للتأثيرات الاقتصادية المترتبة على الكارثة هي أن اليابان لم تعد تشكل أهمية كبرى. فعلى أية حال، كان تباطؤ نمو الناتج الياباني إلى حد غير عادي طيلة عشرين عاماً سبباً في الانخفاض الحاد الذي سجله تأثير اليابان التراكمي على الاقتصاد العالمي ككل. وقد تفضي الكارثة إلى تأثيرات غير متناسبة على سلسلة الإمداد في خطوط إنتاج السيارات وتكنولوجيا المعلومات، ولكن أي انقطاع من هذا القبيل سوف يكون انتقاليا. وعلى السطح، نستطيع أن نقول إن أضخم كيانين اقتصاديين على مستوى العالم ليس لديهما ما يخشونه إلا قليلاً. فاليابان تمثل 5 في المئة فقط من الصادرات الأميركية، و8 في المئة من الصادرات الصينية. وفي ظل أسوأ النتائج التي قد تترتب على التوقف الكامل للاقتصاد الياباني، فإن الانعكاسات المباشرة على الاقتصاد في الولايات المتحدة والصين ستكون ضئيلة - حيث لن ينخفض معدل النمو السنوي في أي من البلدين بما يتجاوز بضعة أعشار من نقطة مئوية واحدة. وفي إطار ما يسمى بمجموعة الدول العشر المتقدمة اقتصادياً، فإن أستراليا كانت الأكثر تعرضاً لليابان - حيث كانت مقصداً لنحو 19 في المئة من إجمالي صادراتها. أما منطقة "اليورو"، فهي تقف عند الطرف الآخر من الطيف، حيث تمثل اليابان أقل من 2 في المئة من صادراتها. وبين الأسواق الناشئة، كانت الفلبين وإندونيسيا الأكثر تعرضاً لليابان، التي تستوعب نحو 16 في المئة من إجمالي صادرات البلدين. أما كوريا الجنوبية، صاحبة ثالث أضخم اقتصاد في شرق آسيا، فإنها تقف عند الطرف الآخر، حيث تعتمد على الطلب الياباني بما لا يتجاوز 6 في المئة من صادراتها. بيد أن هذه النظرة الضيقة تتجاهل الاعتبار الأكثر أهمية: إن هذه "الصدمة اليابانية" لم تحدث في وقت يتسم بقوة اقتصادية كبيرة. ولا يصدق هذا على اليابان فحسب، حيث انتهى الحال بعد عقدين ضائعين باقتصاد كان قوياً ذات يوم إلى مسار نمو سنوي أقل من 1في المئة منذ تسعينيات القرن العشرين، بل ويصدق أيضاً على الاقتصاد العالمي برمته، والذي كان قد بدأ للتو يسلك طريقه نحو التعافي من أسوأ أزمة مالية وركود منذ ثلاثينيات القرن العشرين. فضلاً عن ذلك فإن الصدمة اليابانية ليست العامل السلبي الوحيد اليوم. فالتأثيرات المترتبة على الارتفاع الحاد الذي سجلته أسعار النفط ومشاكل الدين السيادي المستمرة في أوروبا من العوامل المثيرة للقلق الشديد أيضا. ورغم أن كلاً من هذه الصدمات قد لا تكون مؤهلة كنقطة تحول في حد ذاتها، فإن التركيبة والسياق يحدثان قدراً عظيماً من القلق والإرباك على أقل تقدير. والواقع أن السياق يشكل أهمية كبرى. فعلى الرغم من عودة أسواق الأسهم العالمية إلى سابق نشاطها على مدى العامين الماضيين، فإن الاقتصاد العالمي يظل هشاً. ويبدو أن الأسواق تناست أن التعافي في مرحلة ما بعد الفقاعات، وما بعد الأزمات المالية يميل إلى الضعف الشديد. اقتصاد أي بلد ينمو عادة بسرعة أقرب إلى أدنى سرعة تسمح له بالاستمرار في التقدم، وبهذا فهو يفتقر إلى "سرعة الإفلات"، التي قد تكون مطلوبة دورياً لتحقيق التعافي من تلقاء ذاته. ونتيجة لهذا فإن الاقتصاد في مرحلة ما بعد الأزمة، يصبح أشد عُرضة لخطر الصدمات وأكثر ميلاً إلى الانتكاس مقارنة بأي ظروف أخرى. ويشتمل الأمر أيضاً على تعقيد إضافي يجعل صدمات اليوم أكثر إرباكاً: فقد استنفدت الحكومات والبنوك المركزية الذخيرة التقليدية التي طالما اعتمدت عليها أثناء أوقات الأزمات الاقتصادية. ويصدق هذا على السياسة النقدية والسياسة المالية ـ الركيزتين الأساسيتين لتحقيق الاستقرار في مواجهة التقلبات الدورية الحديثة. فقد اقتربت أسعار الفائدة من الصفر في الكيانات الاقتصادية الكبرى في العالم المتقدم، وأصبح العجز الضخم في الموازنات أمراً مألوفاً. ونتيجة لهذا، أصبحت السياسات غير التقليدية - والتي لم تختبر من قبل - كتلك التي يطلق عليها مسمى "التيسير الكمي"، بدعة سارية بين محافظي البنوك المركزية. وطوال الوقت، كانت هذه السياسات غير التقليدية تُعَد بمثابة إصلاحات مؤقتة. وكان المرجو أن تعود الترتيبات السياسية إلى سابق عهدها في مرحلة ما قبل الأزمة. ولكن مع توالي الصدمات الواحدة تلو الأخرى فإن السلطات تستمر في تأجيل تطبيق "استراتيجية الخروج". وكما يكاد يكون من المستحيل أن نتخذ قراراً بإيقاف أجهزة دعم الحياة التي تبقي مريضاً في حالة حرجة على قيد الحياة، فمن الصعب بنفس القدر أن نفطم اقتصاد ما بعد الفقاعة عن الجرعة الثابتة التي يتلقاها الآن من ضخ السيولة والإنفاق بالاستدانة. وفي حقبة من ارتفاع معدلات البطالة إلى عنان السماء فإن الضغوط السياسية لن تفضي إلا إلى تفاقم المشكلة. وربما يثير هذا المخاوف الأكثر إزعاجاً على الإطلاق: فمع تلقي عالم ما بعد الأزمة للصدمات الواحدة تلو الأخرى، وفي ظل افتقار البنوك المركزية للقدرة على خفض أسعار الفائدة، فمن غير الصعب أن نتصور سيناريو من التوسع النقدي المفتوح الذي قد ينتهي إلى الدموع والآلام. والآن تلوح في الأفق، وعلى نحو فجائي لعبة النهاية التضخمية البغيضة باعتبارها احتمالاً حقيقياً للغاية. لا شيء من هذا من شأنه أن ينتقص من عامل المرونة. فسوف تعيد اليابان بناء نفسها، ولا شك أن هذا سوف يحفز نوعاً ما من الانتعاش في اقتصادها الذي مزقته الأزمة. ولقد حدث هذا من قبل في أعقاب زلزال هانشين (كوبي) في عام 1995، وسوف يحدث هذه المرة أيضاً. ولكن كما لم تسهم عملية إعادة البناء بعد كوبي كثيراً في إنهاء أول عقد ياباني ضائع، فبوسعنا أن نتوقع نتيجة مماثلة هذه المرة. والواقع أن الجانب الإيجابي من إعادة البناء ـ بعيداً عن ضرورة استعادة الحياة الطبيعية للآلاف من البشر ـ لا يشكل أكثر من مسكن مؤقت لاقتصاد عليل. وهذا مجرد واحد من الدروس التي تقدمها اليابان لبقية العالم. فقد كان الاقتصاد الياباني في واقع الأمر على الخطوط الأمامية في مواجهة العديد من المشاكل الأكثر خطورة والتي ابتلي بها الاقتصاد العالمي في الأعوام الأخيرة. فمن فقاعات الأصول والنظام المالي المختل إلى خفض العملة قسراً وأخطاء السياسة النقدية، كانت اليابان في كثير من النواحي بمثابة المختبر لمستقبلنا. ولكن من المؤسف أن العالم فشل في استيعاب الدروس اليابانية. والآن يخاطر العالم بإهدار دليل آخر بالغ الأهمية. إن المغزى من الزلزال والتسونامي اللذين ضربا اليابان في عام 2011 لا يكمن في تدني التأثير المباشر لليابان على الاقتصاد العالمي ككل، بل إن الرسالة الأكثر وضوحاً وأهمية على الإطلاق تكمن في الكيفية التي تعمل بها مثل هذه الصدمات على حصر بقيتنا في زاوية أشد ضيقاً من أي وقت مضى. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ستيفن س. روتش عضو هيئة التدريس بجامعة "ييل" ينشر بترتيب مع خدمة "بروجيكت سنديكيت"