ركز أوباما في خُطبه أثناء الترشح وبعد انتخابه بقليل على شعار "التغيير"، وكان الاعتقاد السائد أن التغيير المطلوب والمقصود هو للداخل الأميركي، ولكن بقاء كل الأنظمة التي تحكم الولايات المتحدة الأميركية اقتصاديّاً واجتماعيّاً كما كانت وستكون نسف الاعتقاد السابق، ولم يلحظ سوى قليلين أن التغيير الأميركي المقصود موجه للخارج أكثر منه للداخل الذي تحكمه عدة أسس مُحكمة لا مجال للحديث عنها هنا. والتغيير الأميركي الخارجي حاول أن يبرز داخل بلدان إسلامية تقع بالقرب من شرق العالم العربي، ولكن نجاحه لم يكن كبيراً بل كان أقرب إلى الفشل بسبب قسوة التصدي، ولكن الداخل العربي كان أرضاً خصبة للتغيير الأميركي المطلوب، ولم يكن هذا الداخل العربي هنا وهناك يحتاج -وهو محتقن ومستعد للقفز للمجهول مهما كانت التبعات والنتائج- إلا لمن يقوده إلى خريطة طريق للتغيير، ليس عبر النخب المعارضة التي تشبه المؤسسات الحكومية، ولا عبر الأحزاب التي أكل الدهر عليها وشرب وفقدت مصداقيتها، وإنما من خلال شباب يعملون في تسويق محرك "غوغل" وشركات تسويق أنظمة وبرامج الحاسوب، شباب لهم علاقات "أخوة" مع العالم الافتراضي الذي ولد ونشأ وترعرع هناك في غرب الأطلسي وشمال البحر المتوسط. الأكيد أن التغيير الخارجي الأميركي كان يشمل التقليل من التواجد العسكري في أفغانستان والعراق، وجعل أجهزة الدول الـمُنصبة هناك تتحمل جزءاً كبيراً من مسؤولية الأمن الداخلي، وترك المهمات الكبرى -إن وجدت- للقوات الأميركية المرابطة في قواعد حصينة في هذين البلدين، ويقصد بالمهمات الكبرى الاعتداء من دول الجوار أو حركة تهدد الرموز الـمُنصبة لحكم تلك الدول من خلال صناديق اقتراع تشبه على خجل الطريقة الغربية في الانتخابات والاختيارات. ولكن التغيير الأعمق والأهم في نظر الإدارة الأميركية الجديدة يتعدى مفاهيم ونوعية البقاء في أفغانستان والعراق، إن جائزة التغيير الأميركي وتاجه هو تحويل شكل الشرق الأوسط القديم إلى شرق أوسط جديد، شيء يمزج بين النماذج التركية والإسرائيلية والماليزية، نماذج تمزج بين طرق الحكم الغربية والعلمانية والتعامل مع "الأشرار" وطرق النمو الاقتصادي، وهذا يتمثل في الدول الثلاث تباعاً. لم يكن خلع صدام واحتلال بلاده بسبب مشاركته في أحداث 11 سبتمبر 2001، ولا لأن هناك شكوكاً في امتلاكه لأسلحة ذرية وكيميائية وجرثومية، ولا لأنه صديق لـ"القاعدة" فهو بالطبع عدو تلك الجماعات المتأسلمة أصلاًَ؛ بل لأن الاختيار وقع عليه وعلى بلاده لتشهد أول ولادة لمبدأ الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط القديم، ليصبح جديداً بكل ما تحمله الكلمة من معنى مع تحمل تبعات الفوضى الأولية، إلى أن تُبنى الدول الإسلامية والعربية المتداعية أو ما تبقى منها على أسس جديدة لا تسبب قلقاً وخوفاً إرهابيّاً لدى الغرب. وكان من الممكن أن يتبع غزو العراق وإجباره على الركوع امتداد فكر وفعل صناعة الشرق الأوسط الجديد لكل البلدان العربية أو بعضها على الأقل، كان يمكن أن نشهد أحداث تونس تتقدم من أوائل 2011 إلى أوائل 2004 مثلاً وكذلك مصر والدول العربية الأخرى المختارة، ولكن أحداثاً وقعت أجلت -فقط- الفوضى الأميركية الخلاقة في الشرق الأوسط الجديد، ومن ذلك قتلى الأميركيين في العراق الذين تجاوز عددهم 4 آلاف واشتعال حرب لبنان بين "حزب الله" وإسرائيل، وقصف إسرائيل لـ"دولة غزة" الحمساوية، وتردي الأوضاع الأمنية والعسكرية في أفغانستان، والأزمات المالية المتلاحقة في الدول الكبرى الغربية، وقدوم إدارة أميركية جديدة للبيت الأبيض، إلى جانب إعطاء فسحة من الوقت لتأزيم الداخل العربي المختار وانتقاء رجال الأيام الحاسمة القادمة، التي تحتاج إلى تأنٍ تتطلبه الرغبة في تحويل أجهزة أمن بعض الدول العربية من نمور حقيقية، لتصبح نموراً من ورق تتهاوى بسرعة تحت ضغط الأحداث المتوقعة المتسارعة القادمة. والأكيد أن خطة الشرق الأوسط الجديد لا تحتاج إلى جنود غربيين للغزو، فهذا مكلف ماديّاً وبشريّاً وخاصةً أن مأساة جنود حلف الأطلسي في أفغانستان، وأميركا في العراق بادية للعيان إلى جانب التمويل الهائل الذي تتطلبه الخطة وهو أمٌر غير معقول ولا متيسر في ظل أزمة ائتمانية عالمية خافقة. ولكن من سينفذ بنود الخطة واسعة النطاق التي تعتمد على شيء يشابه تساقط أحجار "الدومينو"... خليط من أشياء متنافرة ولكنها تحقق في المحصلة الأخيرة نفس النتائج المأمولة. سينفذها بطريق غير مباشر -وفي ذلك مفارقة- رؤوس الجمهوريات التي تحولت أو كانت في طريقها للتحول إلى جمهوريات وراثية، مع أن دساتيرهم وشكل أنظمة الحكم الجمهوري التي يحكمون من خلالها لا تتيح هذا، إلا أن عسفاً للدساتير وإدخالاً للتعديلات المتعاقبة عليها حولا تلك الدول إلى ما يشبه هجيناً غريباً وكائناً ممسوخاً بين الملكية والجمهورية ثم ترهلت وأصبحت آيلة للسقوط الحتمي! كان هذا هو أحد العوامل إلى جانب الأفق المسدود اقتصاديّاً إما بسبب عوامل خارجية مثل ارتفاع أسعار الغذاء والمواد الأولية أو بسبب الفساد المستشري داخل "الجملكية"! ألقت الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي نظرة فاحصة على بعض الداخل العربي عبر عيون سفاراتها وجواسيسها وعملائها، فوجدت أن بديل الاحتقان الداخلي الذي وصل إلى أشده هو منظمات أقرب إلى خليط من "القاعدة" و"طالبان" فكراً وسلوكاً، وفي أحسن الأحوال "إخوان" حسن البنا وسيد قطب والمودودي و"حماس"، هنا لم يعد في وسع الغرب الانتظار حتى تقوم "الجملكية" بتحسين صورتها وتقويم أدائها المتعثر جدّاً، فالزمن يتسارع ووقت الزلزال الذي يخشاه الغرب يقترب، وأين منه زلزال 11 سبتمبر الاجتهادي الذي لم يكن قد أسس دولةً بعد؟! من البديل؟ البديل شباب من الطبقة الوسطى، يحملون مؤهلات عالية في التقنية ولهم ميول ليبرالية في قضايا المجتمع المختلفة من الدين وحتى المسرح، ويحملون أيضاً أفكاراً رأسمالية مُعدلة مثلما هو الأمر في دول إسكندنافيا، وهم في هذا المفهوم والوصف أقرب للعقيدة الغربية في السياسة والاقتصاد وإدارة شؤون المجتمع. هؤلاء الشباب كانوا جنود التغيير الأميركي، لعدة اعتبارات كان من ضمنها ما ذكرناه سابقاً، إلى جانب شعورهم بالتهميش من قبل النخب الحاكمة رغم مؤهلاتهم وتطلعاتهم. ومن ضمن البوارج غير الحربية الأميركية لخلق شرق أوسط جديد، قنوات فضائية عربية، فبدونها تبقى نسب نجاح الخطط الموضوعة متواضعة، مهما فعل شباب "الفيس بوك"، فعبر القنوات واسعة الانتشار التي يتابعها المثقف والأمي، يتم تقزيم هيبة النخب الحاكمة في الدول التي يراد استهدافها، تثار الفتنة حولهم وتنسف شرعيتهم وتعطي مساحة مرئية ومسموعة ملموسة للمعارضين الذين قد لا يحملون برنامجاً بديلاً سوى... إسقاط النظام، وهذه القنوات هي حطب التحشدات الجماهيرية، التي تبدأ صغيرة محدودة ثم ينفخ الروح فيها عبر طريقة عقلية القطيع، ثم تتدحرج الحشود وراء الحشود إلى حد أن كثيرين يذهبون إلى حيث أمكنة الاعتصامات والاحتجاجات ليطلعوا على الموقف فقط، ولكنهم ما يلبثون أن يتحولوا إلى جزء من هذه الحشود المعارضة، فموجات الإعلام المرئي الموجه طاغية ولا يمكن مقاومتها. التغيير الأميركي الجديد يحتاج إلى مقال آخر يحيط ولو بشكل متواضع بعظم الحدث الجاري... والذي سيجري.