عند الحفر في حديقة مسؤول صحي في دولة مالي، اكتشف المحققون أزيد من 30 خاتماً مزوراً تستعمل لختم فواتير مزورة تذهب إلى "الصندوق العالمي لمحاربة الإيدز والسل والملاريا". وقد رفع المفتش العام للصندوق تقريراً يبلغ فيه عن فساد خطير في برامج أربعة بلدان هي مالي وموريتانيا وزامبيا وجيبوتي؛ وخلصت قصاصة إخبارية لوكالة "أسوشييتد برس" إلى أن "ما يصل إلى ثلثي نفقات الصندوق العالمي يتم إنفاقها على نحو سيئ". ونتيجة لذلك، قررت ألمانيا والسويد وقف دعمهما للصندوق؛ بينما استغل بعض المحافظين هذا الخبر، الذي يعزز تصوراتهم المسبقة حول المساعدات الخارجية ويتناسب مع دعوتهم إلى خفض الميزانية، حيث يقولون إن ثلثي أموال "الصندوق العالمي" إنما تضيع بسبب الفساد. وغني عن البيان أنه عندما تتناسب الفضائح مع خطابات أيديولوجية معروفة وأفكار جاهزة، فإنها تُستغل أبشع استغلال. والواقع أن هذا الخطاب الأيديولوجي المحافظ الخاص، والمتعلق بقصة المساعدات المهدورة وعديمة الفائدة، هو خطاب قديم ومستمر، لكنه مضلل أيضاً وقد يكون مميتاً. ولعل قضية "الصندوق العالمي" المثيرة للجدل، مثال جيد في هذا الإطار. فرقم الثلثين ينطبق على عنصر واحد من منحة بلد واحد، وهو المثال الأكثر استثنائية في العالم. وعلاوة على ذلك، فإن التحقيقات مازالت متواصلة، والـ34 مليون دولار المختلسة التي تم الكشف عنها، لا تمثل سوى ثلاثة أعشار 1 في المئة من الأموال التي وزعها الصندوق. ثم إن السخرية هنا كبيرة. فقضايا الفساد هذه لم يتم الكشف عنها من قبل صحفي محقق؛ بل تم الإعلان عنها من قبل الصندوق نفسه، حيث قام مكتب المفتش العام بمراجعة 59 ألف وثيقة في حالة مالي وحدها، وقدم خلاصات التحقيق إلى الادعاء العام في ذلك البلد. ونتيجة لذلك، تم توقيف وسجن خمسة عشر مسؤولاً في مالي. والحقيقة أن الغضب بسبب الفساد في المساعدات الخارجية مبرر ومفهوم؛ لكن هذا هو شكل المحاسبة والشفافية في المساعدات الخارجية. والفضيحة الحقيقية هي عقود من المساعدات التي كان فيها مثل هذا الفساد مفترضاً، وليس موضع تحقيق وكشف. والواقع أنه أمام "الصندوق العالمي" تحدي صعب اليوم، وذلك لأنه يجمع الموارد من الحكومات والمؤسسات والأفراد، لكنه يعتمد على الشركاء المحليين لتنفيذ هذه البرامج الممولة. وبديهي أنه عندما يتم توفير مواد وسلع باهظة التكلفة نسبياً، كالأدوية للمصابين بالإيدز أو العقاقير العلاجية للملاريا، من خلال هياكل معقدة نسبياً، فهناك إمكانية لحدوث الفساد. ولذلك، يقوم "الصندوق" بعمليات تدقيق مالية لكل منحة يقدمها، ويطالب بنتائج يمكن قياسها، وكثيراً ما يقوم بإيقاف البرامج غير الفعالة، ويشجع المنبهين إلى وجود اختلالات أو تجاوزات. وللتذكير، فقد كانت الولايات المتحدة -التي تعد أكبر داعم للصندوق- هي من دفع في عام 2005 في اتجاه تعيين مفتش عام قوي لمحاربة الاحتيال؛ وهو المفتش الذي يقوم بعمله اليوم. والحقيقة أن رد الصندوق على هذه الحالات كان جدياً حتى الآن. فبالنظر إلى تركز الاحتيال في برامج التدريب، فقد تم تعليق كل الأنشطة المتعلقة بالتدريبات. كما يتم حالياً تطبيق إجراءات مشددة، حيث يقوم الصندوق بالتحقق من النفقات مرتين في البلدان النامية حيث تزداد احتمالات وقوع عمليات غش واحتيال. كما يقترح مراجعة مستقلة لآليات المراقبة المالية التي يعتمدها. والواقع أن حالات الفساد في أماكن مثل مالي ليست تمثيلية، لكن أن أياً في العاهدة ليست عنصراً فريداً من نوعه، إذ مما لا شك فيه أنه سيكون ثمة مزيد من الحالات التي يتم الكشف عنها ومزيد من الإصلاحات المطلوبة. غير أنه يتعين على صناع السياسات الأميركيين أن يضعوا أمرين اثنين في أذهانهم. الأول؛ أن الصندوق لا يمكن الاستغناء عنه، وذلك لأنه يدعم نحو ثلثي الجهود العالمية ضد الملاريا والسل، وحوالي ربع الجهود العالمية ضد الإيدز. فمنذ عام 2002، ساعد الصندوق على رصد ومعالجة 7.7 مليون حالة سل، وعلى توزيع 160 مليوناً من الشبكات المعالَجة بمبيدات حشرية، وإدراج ملايين الأشخاص المصابين في قوائم المستفيدين من برامج معالجة الإيدز. والأكيد أن هذه ليست نتائج برنامج مختل! والثاني، أن الصندوق هو الطريقة الرئيسية التي تنشر بواسطتها الولايات المتحدة مسؤولية تشجيع الصحة العالمية إلى بلدان أخرى؛ إذ أن نحو ثلث تمويل الصندوق يأتي من الولايات المتحدة، في حين يتم جمع البقية في أماكن أخرى. وبالتالي، ففي حال تم تقليص الصندوق أو وقفه، فإنه سيتعين على الولايات المتحدة زيادة التزاماتها الصحية عبر العالم بشكل دراماتيكي، على الأقل إذا كنا نرغب في تجنب التواطؤ على مأساة عالمية. وفي أي فضيحةٍ غالباً ما يكون رد الفعل الأول هو الغضب. وفي الصحة العالمية الفساد قاتل. غير أن أهم رد على الفساد هو الحرص على معاقبة الأشخاص المذنبين الذين يستحقون العقاب، وليس طفلاً إفريقياً يحتاج إلى ناموسية تقيه من لدغات البعوض الناقل لجرثومة الملاريا، أو ضحية مرض فتاك وخطير. فالمرضى لم يلعبوا أي دور في الخلافات و"الفضائح" المحيطة بالصندوق العالمي، لكنهم يعتمدون على نتيجتها. والأكيد أن رد فعل مبالغ فيه من قبل البلدان المانحة يمكن أن يتسبب في موت أرواح كثيرة! مايكل جرسون محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس"