المشروع النهضوي بين الدولة والسلطة
يناقش نص "المشروع النهضوي العربي" في فصله الختامي عدداً من المقاربات المتعلقة بآليات تحقيق المشروع وتجسيده على الأرض، مُركزاً النقاش على القوى السياسية المنوط بها إنجازه وكذا الآليات المأمول توظيفها. وفي هذا السياق يرى النص ضرورة "عدم الخلط بين الدولة والسلطة" وذلك في معرض "النضال" ضد فساد السلطة في العالم العربي وتغير ذلك في سياق أوسع، كما يفهم القارئ. وهذا بالتأكيد تفريق مهم ومن الملح دوماً توكيده في الوعي العام والنخبوي، ذلك أن جزءاً لا يستهان به من الخطاب الذي يخلط بين الدولة والسلطة يقف خلف العنف العدمي الذي يرتكبه كثير من الأحزاب والمنظمات وحتى الأفراد ضد الدولة برمتها.
ويؤكد النص أيضاً على أهمية "التمييز القاطع بين إضعاف الدولة والتحرر من الأنظمة والمؤسسات السلطوية والاستبدادية"، معتبراً أن من "النفاق غير المجدي الادعاء بأن لا دور للدولة ممكناً في الاقتصاد والاجتماع الحديثين"، مستخلصاً، وهنا بيت القصيد، "أن من المستحيل تصوّر أي تقدم نحو بناء الوحدة القومية دون الأخذ في الاعتبار الدور الحاسم الذي يمكن -ويجب- أن تنهض به الدولة في هذا المجال". وتنقل هذه المقاربة وموقفها الواضح إزاء ضرورة الدولة جزءاً مهمّاً من النقاش القومي التقليدي إلى أفق جديد. ففي الكثير من الأدبيات القومية الكلاسيكية نُظر للدولة، التي قُصد بها تحديداً الدولة القطرية أو الوطنية الناشئة في مرحلة ما بعد نزع الاستعمار، على أنها عقبة أمام قيام الوحدة العربية. وبالتالي فإن إضعافها، وليس تقويتها، هو ما يقود ويسرع إلى "بناء الوحدة القومية". كما لم يكن في مدخلات النقاش الكلاسيكي للدعوة القومية كثير من عناصر النقاش الحديث في مسألة صراع المجتمع المدني وقوى التغيير الاجتماعية ضد الدولة أو ضد السلطة. ولكن المهم في أي نقاش كان يرتبط بقوة الدولة (القطرية/الوطنية) أن الموقف كان يتراوح بين حدي التأييد المباشر لإضعاف الدولة والتلعثم والغموض إزاءها. وهنا يتجه موقف "المشروع النهضوي العربي" بوضوح وحسم نحو قطع آخر مع كلاسيكيات الموقف القومي المعروف.
بيد أن هذا الموقف وإذ يحسم هذه المسألة بجلاء فإنه قد يُرى في ذات الوقت على أنه يفتح على "المشروع النهضوي" تناقضاً كبيراً لا يحله حسم المواقف نظريّاً ولا حتى عمليّاً. والتناقض المعني هنا هو أن تقوية الدولة القطرية/ الوطنية قد يقود عمليّاً وتجسيديّاً إلى الابتعاد عن حلم الوحدة القومية لأن ترسخ الدول العربية وتجذرها واستقواءها معناه عدم حاجتها إلى الوحدة لتحقيق ذلك الترسخ والتجذر والاستقواء. وهذا يقود إلى أن تصبح الدعوة للوحدة غير ذات معنى عمليّاً. والرد على هذا المنطق الذي يكمن في جوهره منطق الاستعداء الكلاسيكي القومي للدولة العربية الحديثة يقوم ببساطة على أن أي توجه نحو أية صيغة من صيغ التضامن والفيدرالية العربية (أو حتى الوحدة في أقصى درجاتها طوباوية) لا يتم ولن يتم إلا من قبل دول قوية تتمتع بثقة عالية وسيادة حقيقية. فالدول الضعيفة تبقى متوترة وتخشى على ذاتها وسيادتها من أية فكرة أو مشروع تعاوني أو فيدرالي أو حتى كونفدرالي لأنها ترى فيه ذوبانها ونهايتها. وربما جاز القول إن فشل وتعثر كثير من مشاريع الوحدات العربية يعود في جزء كبير منه إلى هذا الخوف المتجذر وفقدان الثقة والضعف الذاتي الذي كانت وما تزال تشعر به البلدان الضعيفة والصغيرة إزاء القوية نسبيّاً والكبيرة.
وينتقل النص للحديث عن "موقع المنظمات غير الحكومية في المشروع النهضوي ومساهمتها فيه". وإذ يعدد النص بعض إيجابيات هذه المنظمات لجهة "تعريفها قطاعات واسعة من المواطنين العرب بحقوقهم الأساسية، ونجاحها أحياناً في التخفيف من الآلام والحرمان.. وفي فرض تشريعات أكثر احتراماً لحقوق الإنسان والبيئة والمرأة، ثم نجاحها في الزج بالشباب العربي في الشأن العام، فإنه يؤسس بذلك لسرد قائمة من السلبيات تكشف عن موقف شبه مسبق. والسلبيات التي يحددها النص تشمل القول إن "قسماً كبيراً من المنظمات غير الحكومية في الوطن العربي لا تنطبق عليه التسمية" أي أن الحكومات وراء إنشائها، وأن "قسماً كبيراً منها مرتهن لمصادر التمويل الخارجية..."، وأنه "نادراً ما شكلت المنظمات غير الحكومية مدارس ناجحة في الديمقراطية، على الرغم من إعلاء معظمها الديمقراطية فوق سائر أهدافها"، وأن هذه المنظمات "جزأت... المطالب الشعبية والمجتمعية إلى اختصاصات مختلفة (نساء، بيئة، حقوق إنسان، تنمية، تمويل... الخ)". وبعض هذه السلبيات قد يتم التوافق عليه من ناحية موضوعية، ولكن بعضها الآخر يتصف بالتعميم والغموض. فمثلاً لا يمكن قبول التعميم المُطلق على عواهنه من قبيل الزعم أنه "نادراً ما شكلت المنظمات غير الحكومية مدارس ناجحة في الديمقراطية" لأن هذا يحتاج إلى دراسة علمية وإثبات إمبريقي. كما لا يمكن قبول فكرة تجزئة المنظمات الحكومية للمطالب الشعبية والمجتمعية إلى اختصاصات مختلفة باعتبار كون ذلك صفة سلبية تدين هذه المنظمات، بل على العكس ربما تُرى على أنها إيجابية لأن التخصص يؤدي إلى إبراز الحقوق بشكل أكثر.
ولكن هذه النظرة السلبية يمكن أن نفهم منطلقها بشكل أدق عندما نقرأ تقييماً إجماليّاً لدور هذه المنظمات لجهة علاقتها مع الأحزاب السياسية حيث "تبدو الأولى وكأنها تنافس الثانية، معتمدة في تجنيد الشباب على نفور هؤلاء من الأحزاب لأسباب شتى..." (ص 122). وإذن يبدو مصدر النقد هو الإحساس بأن هذه المنظمات تنمو وتكبر على حساب الأحزاب التقليدية، والقومية منها على وجه التحديد، وهي إحدى الآليات التي يستبطنها النص لإنجاز المشروع النهضوي، وهذا يقود إلى تقييم غير موضوعي في نهاية المطاف لدور تلك المنظمات. وعلينا أن نتذكر أن نص المشروع النهضوي وقبل ثلاث صفحات فقط (ص 119) كان قد أكد على أن القوى السياسية والاجتماعية تظل في حراك مستمر وهي قوى في قيد التكوين دائماً. وإذا طبقنا ذلك على المنظمات غير الحكومية فإننا نرى أنها أكثر ما ينطبق عليه تقدير النص المذكور، أي أنها دائمة البروز والتجدد. وربما يؤكد هذه النقطة، أي الشعور بالتنافس مع أي حزب قومي قادم، ما ينادي به النص، ولو على استحياء، من قيام حزب قومي على نطاق العالم العربي مع التأكيد على ضرورة "الاستفادة من الأخطاء التي انطوت عليها التجارب السابقة "وبالذات تلك التي سمحت بتسخير نضالات فروع الحزب في سائر الأقطار لخدمة نظام بعينه تحت عنوان خدمة الحزب" (ص123).