تحل هذه الأيام الذكرى الثالثة والستون لرحيل الزعيم الخالد المهاتما غاندي (1869- 1948) الذي رسم ملامح ومعالم التجربة الهندية الخالدة في "المقاومة المدنية" للاحتلال وحدد لها مقاصدها وأساليبها، مستفيداً مما قرأه من أعمال لمفكرين إنسانيين من أمثال تولستوي وثوربو وإمرسون وراسكين وغيرهم. وقد انطلق غاندي في طريقته هذه المعروفة باسم الساتياجراها Satigraha من أن أي عنف لا يلغي الظلم، فالعنف يؤدي دوماً إلى الاستغلال والطغيان، وأن النضال من أجل الحقيقة لابد أن يلازمه الحب، وأن الغاية الطيبة لا يمكن الوصول إليها بوسائل شريرة، إنما بإفناء الروح ضد إرادة الجور والاستبداد، ومكابدة المعاناة الذاتية لتحقيق أقصى درجة من الشجاعة والتحرر من الخوف، والتعامل بندِّية ظاهرة مع الخصم، وتحويل الصراع إلى "توتر خلاق" يساعد في تدمير السلطة الباطشة أو المحتلة واستبدالها بأخرى وطنية. وتنفيذاً لفلسفته أو فكرته هذه دعا غاندي الهنود إلى رفض إطاعة قوانين معينة مع ممارسة سلوك مغاير من دون الانزلاق إلى أي عنف. وقد لجأ غاندي إلى هذه الطريقة أثناء إقامته في جنوب إفريقيا، للاحتجاج على أوضاع العمال الآسيويين هناك، ونقل التجربة إلى الهند في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، واستخدمها في تعبئة الناس للاعتراض على ضريبة الملح المغالى فيها، ثم توظيفها في رفض الاحتلال البريطاني برمته. وتقوم هذه الطريقة أيضاً على عدم التعاون مع الاحتلال، والامتناع عن تزويد سلطاته بأي مدد يضخ في أوصاله قوة دائمة تساعده على الاستمرار، سواء كان هذا المدد رجالاً أم مالاً، ولذا طلب من الموظفين الهنود ألا يعملوا، وطلب من نواب المجالس المحلية أن يقدموا استقالاتهم، وأن يُخرجوا أولادهم من المدارس والجامعات التي تديرها الحكومة، ويساهموا في إقامة مدارس وطنية بديلة تقوم على التطوع. كما قامت هذه الطريقة على مقاطعة المحاكم البريطانية وإقامة محاكم وطنية بدلًا منها، ومقاطعة البضائع الأجنبية، والاعتماد على المنتجات المحلية مهما كانت بسيطة، والصوم عن الطعام. وامتدت هذه الطريقة المبتكرة في العصيان السياسي إلى جلوس الهنود على قارعة الطريق لإعاقة مرور المحتلين، أو خارج المكاتب الحكومية في حالة اعتصام مزمن، فإذا قامت الشرطة باعتقالهم ذهبوا معها طائعين إلى السجون، وهم يبدون لها قدراً هائلًا من اللامبالاة والتجاسر. ويبلغ الأمر مداه مع إقامة دروع بشرية ضخمة من الرجال والنساء والأطفال لمواجهة الغزو الخارجي. فغاندي رأى في احتشاد الناس العُزل على الحدود لصد القوات الغازية طريقة مثلى في هزيمة المعتدين، إذ إنهم لو كانوا مستعدين في البداية للسير بدباباتهم ومدافعهم وعرباتهم المصفحة فوق أجساد الملايين فإنه ليس بوسعهم أن يستمروا في أسلوبهم الدموي هذا إلى النهاية. وكما يقول غاندي: "لو ظهر نيرون جديد فإن جوانحه لن تخلو من قلب لابد أن يتأثر بقتل وجرح هذه الطوابير البشرية اللانهائية التي لا تفعل سوى الاحتجاج السلمي، فقد يقتل إنسان إنساناً في ميدان المعركة، لأن شأن الحرب هكذا، إما قاتل أو مقتول، لكن ليس بوسع أحد أن يستمر في قتل من لا يتوقع منه أن يقتله، وإذا حدث أن ارتكب جيش هذا العمل الفظيع، فلن يقدر على أن يكرره مرة أخرى". وقد عرض غاندي إقامة هذا الدرع البشري الضخم عام 1931 أثناء محادثات له في سويسرا، ونصح بلاد الحبشة بأن تفعل هذا حين اجتاحها الجيش الإيطالي عام 1935. وفي العام نفسه قدم النصيحة ذاتها إلى الصينيين في مواجهة اليابانيين، وإلى التشيك والبولنديين في التصدي للألمان. ولإعطاء العصيان السياسي دفعة قوية وحقيقية قام غاندي بإنشاء منظمة عام 1930 ضمت شخصيات بارزة من مختلف ولايات الهند، وفريقاً متطوعاً أخذ على عاتقه تدريب الناس على الشروط الدقيقة للاحتجاج غير العنيف. وكان غاندي يتدخل دوماً في الوقت المناسب لتعديل أو تغيير بعض الأساليب في إطار الرؤية العامة والخطوط العريضة لـ"الساتياجراها" حين يشعر بضرورة ذلك، من دون أن يفقد إيمانه بفاعلية هذا الأسلوب في أي لحظة من اللحظات، فها هو يتصدى لاعتراض الشاعر الهندي الشهير طاغور على مسألة عدم شراء الملابس الأجنبية وحرقها بدعوى أنها إجراء سلبي، ويقول لطاغور في ثبات إن الاحتلال البريطاني نفسه هو الذي يقوم على طريقة سلبية في التعامل مع الهند . وتنطوي رؤية غاندي وتعاليمه في جوهرها على إعلاء مكانة "السلام" على حساب "الحرب" واستخدامه وسيلة قوية لنيل الحقوق. ويمكن تلخيص هذه الرؤية في عدة مبادئ من أهمها: 1 - السلام الحقيقي هو سلام الأحرار لا سلام العبيد، واطمئنان هذا السلام داخل حدود الدولة الواحدة يكفل السلام في علاقات الدول بعضها مع بعض. 2 - قوة الروح المستمدة من الحق أمضى من كل سلاح لأن صاحبها لا يعبأ بما يصيبه في سبيل هذا الحق، ولو كان ما يصيبه الموت. 3 - كل عمل شريفٌ ما دام نزيهاً، والعمل هو الذي يجعل لصاحبه الحق في العيش وفي الحياة، وكل من يعيش بغير عمل يسلب العامل عرق جبينه، ويسلبه لذلك حريته، ويمهد من ثم لاضطراب السلام. 4- الاستعمار هو استغلال شعب لشعب بغير حق، وهو لذلك من أسباب الحرب، ما بقي في العالم، ولذا يجب القضاء عليه قضاءً مبرماً. ومن اليسير نضال الاستعمار بغير عنف ومن غير حقد عن طريق عدم التعاون والإضراب والمقاطعة والعصيان المدني، وكل وسائل النضال البعيدة عن العنف، والمستندة إلى الحق وحده. 5- يجب أن يكون الاكتفاء الذاتي أساس الاقتصاد القومي في الزراعة والصناعة، وأن يكون التبادل التجاري مؤيداً لهذا الاتجاه، فلا يجني عليه بحال.