أعلنت منظمة "السلام الآن" الإسرائيلية في 23 ديسمبر المنصرم أن نمو النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية تصاعد على نحو غير مسبوق وذلك منذ انتهاء العمل بالتجميد المؤقت للاستيطان قبل ثلاثة أشهر. والأمر لا يثير أي استغراب بالنظر إلى الحكومة الإسرائيلية الحالية التي يقودها الجناح اليميني في الدولة العبرية والمعروف بمواقفة الاستيطانية، بل معروف أكثر بكل ما يعيق السلام، فضلاً عن تلكؤه الواضح فيما يتعلق بقيام دولة فلسطينية مستقلة. ولذلك فهذه الحكومة غير معنية بتقديم "تنازلات" في سبيل تحقيق هدف الدولتين، فحسب رأي رئيسها ليس من الضروري لإسرائيل تقديم تنازلات طالما أنها قد نجحت في تحجيم الضغوط الأميركية التي حاولت إدارة أوباما ممارستها في وقت سابق. كما ترى إسرائيل أن قوتها المسلحة المتطورة قادرة على صد أي هجوم إقليمي بفضل الدعم العسكري غير المشروط الذي تقدمه واشنطن. هذا الواقع خلصت إليه منظمة "السلام الآن" بقولها: "يبدو أن الولايات المتحدة والعالم تخلى عن الضغط على إسرائيل للحد من البناء الاستيطاني". وتستند المنظمة في استنتاجها الى ما رصدته ميدانياً منذ انتهاء مهلة تجميد الاستيطان قبل ثلاثة أشهر، حيث لاحظت المنظمة تنامياً ملحوظاً في البناء الاستيطاني الذي وصل إلى 1712 وحدة سكنية مقارنة بالوتيرة السنوية العادية التي تتراوح بين 1500 و2000 بناية، لكن الاستيطان في الأراضي الفلسطينية لم يتوقف منذ احتلال إسرائيل للضفة الغربية عام 1967 حيث تعرضت تلك الأراضي لاكتساح استيطاني يهودي رغم اعتقاد المراقبين أن بعضاً منها على الأقل سيتم إزالته ضمن اتفاق السلام الموعود بين الفلسطينيين وإسرائيل، علماً بأن السلطات الإسرائيلية أعطت المستوطنين الضوء الأخضر لتشييد 13 ألف منزل في الأراضي المحتلة. فهل تخلى العالم فعلاً عن ممارسة الضغط على إسرائيل لوقف البناء غير القانوني للمستوطنات اليهودية؟ الحقيقة أن الأمر ليس واضحاً ومازال يلفه الغموض، لكن مع ذلك تمكن الإشارة إلى مجموعة من الأفكار المطروحة في هذا السياق. فما زالت الولايات المتحدة هي اللاعب الأساسي في عملية السلام مع اقتصار "اللجنة الرباعية"، التي شُكلت لمتابعة تطورات العملية، على أدوار هامشية لا ترقى إلى ما هو مأمول منها. ولا شك أن واشنطن منزعجة من حكومة نتنياهو وحلفائه في الوزارة من ممثلي المستوطنين، لعدم موافقتهم على الاستمرار في تجميد الاستيطان الذي يعتبر وفقاً للقانون الدولي غير شرعي ولا يحترم الاتفاقيات الدولية ذات الصلة. هذا في الوقت الذي يطلق فيه نتنياهو تصريحات تفتقد للمصداقية بشأن رغبته في قيام دولة فلسطينية. ومن جهتها حرصت الولايات المتحدة على تأكيد انخراطها في السلام، نافية رفع يديها عن الصراع بين الطرفين من خلال تصريح لوزيرة الخارجية قالت فيه "إن الولايات المتحدة لن تبقى مجرد مشارك سلبي في العملية السلمية". وهو الحرص نفسه الذي أبداه المبعوث الأميركي إلى الشرق الأوسط، والذي قام بجهد خاص لتقريب وجهات النظر بين الفلسطينيين والإسرائيليين دون أن تثنيه العثرات من التأكيد على أن الانسحاب الأميركي من العملية لن يكون في مصلحتها، بل لن يكون في مصلحة إسرائيل ذاتها التي تظهر كل هذا التعنت إزاء قضية الاستيطان. أما ردود الفعل الفلسطينية فقد جاءت غاضبة على هذا الجمود، ما دفع السلطة للتلويح، في 15 نوفمبر الماضي، بإمكانية التوجه إلى مجلس الأمن في الأمم المتحدة لاستصدار قرار يعترف باستقلال الدولة الفلسطينية ضمن حدود عام 1967. ومنذ سبتمبر الماضي اعترفت عدة دول في أميركا اللاتينية بالدولة الفلسطينية على رأسها البرازيل. وقد سادت تساؤلات داخل إسرائيل طيلة الفترة الأخيرة عن احتمالات الدعم الدولي لمثل هذا القرار، وما إذا كانت أميركا ستقف على الحياد في مجلس الأمن، أم ستختار -كما هي عادتها دائماً- الانحياز لإسرائيل والتصويت ضد القرار. وفي هذا السياق لا يتوقع عريقات، كبير المفاوضين الفلسطينيين، أن تستخدم أميركا حق النقض (الفيتو) لإسقاط القرار، موضحاً ذلك بقوله: "إذا كان الأميركيون عاجزين عن وقف الاستيطان الإسرائيلي فعليهم ألا يغطوا تصرفات الحكومة الإسرائيلية عندما نتوجه إلى مجلس الأمن". لكن سبق للفلسطينيين أن جربوا الذهاب إلى الأمم المتحدة؛ كما أنه في نوفمبر 1988 تم إعلان فلسطين دولة مستقلة دون أن يتحقق شيء على أرض الواقع... لذا أعتقد شخصياً أن الولايات المتحدة في هذه المرحلة غير مستعدة للقيام بدورها في الضغط على إسرائيل وفرض حل الدولتين مع القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية. ولا يعني ذلك أن أميركا، في حال توفرت لديها الإرادة السياسية، غير قادرة فعلاً على دفع إسرائيل نحو السلام. لكن حتى لا نحمل أميركا وحدها أعباء الصراع في الشرق الأوسط، لابد لأوروبا أن تلعب دورها، لاسيما وأن الاتحاد الأوروبي يستقبل حوالي 40 في المئة من صادرات إسرائيل ضمن اتفاقية للتجارة بين الطرفين، حيث يؤكد نص الاتفاقية على "احترام حقوق الإنسان والمبادئ الديمقراطية". وعلى ضوء التصرفات الإسرائيلية، قد يُقدم برلمان الاتحاد الأوروبي على تعليق هذه الاتفاقية حتى تنسجم إسرائيل مع مبادئها. فقد وصل واقع الاحتلال في الأراضي الفلسطينية إلى حد لم يعد مقبولاً السكوت عنه كما أعلن ذلك كريس باتين، المفوض الأوروبي السابق والمسؤول عن السياسية الخارجية للاتحاد بين عامي 1999 و2004، إذ قال في يونيو الماضي "إن فلسطين تحولت إلى مناطق مسيجة بينما اكتفى الاتحاد الأوروبي بلعب دور التابع للولايات المتحدة". وفي هذا الخصوص اقترح باتين أن "ينسق الاتحاد الأوروبي مع تركيا والجامعة العربية لبلورة اتفاق يطرح على مجلس الأمن الدولي". لكن المشكلة تبقى في استمرار الدعم الغربي لإسرائيل، حيث يبدو من غير المرجح ممارسة أي ضغط فعلي من جانب الدول الغربية على الدولة العبرية في وقت تتراجع فيه فرص قيام دولة فلسطينية.