لا شك أن مصادقة مجلس الشيوخ الأميركي على معاهدة ستارت الجديدة قوبلت بالترحيب من قبل المسؤولين العقلاء الحريصين على سلامة السياسة الخارجية الأميركية، بالإضافة إلى حصافة الاستراتيجية الدفاعية للولايات المتحدة. لكن في الوقت نفسه، ساهم الاستعداد الذي أبدته إدارة أوباما لاستيعاب مخاوف الجمهوريين حول الصواريخ الدفاعية، وتحديث القوة النووية المتقادمة، في تعزيز المعاهدة، المتواضعة كما كانت في البداية، وتطوير بنودها لتجيب على انشغالات الجمهوريين. فمقابل موافقة أعضاء مجلس الشيوخ من الجمهوريين على تمرير المعاهدة، وقبولهم بخفض متواضع نسبياً للرؤوس النووية الأميركية، أعلن أوباما من جهته تأييده لنظام الصواريخ الدفاعية بطريقة لا سابق لها، بل أكثر من ذلك، خصص حوالي 80 مليار دولار لتحديث الترسانة النووية الأميركية، لذا يشعر الجمهوريون أنهم لم يخرجوا من الصفقة بدون مكاسب وبدون تحقيق انتصارهم الخاص. ورغم ما قد تنطوي عليه الصفقات الحزبية من مساوئ، في بعض المرات، لتمرير قوانين أو المصادقة على معاهدات، كما هو الحال اليوم، فإن الأمر مع "ستارت" الجديدة لا يقتصر على الولايات المتحدة، بل له تداعيات متشعبة على الصعيد العالمي. فالدول الأخرى التي تراقب ما يجري في الولايات المتحدة بحاجة في هذه اللحظة تحديداً، حيث تحوم الشكوك حول أميركا، إلى تأكيد قدرة النظام السياسي الأميركي على التوافق واتخاذ قرار حاسم. ويكفي للتدليل على الطابع العالمي للمعاهدة، والاهتمام الدولي الكبير بتمرير "ستارت" الجديدة، تدخل بعض القوى العالمية التي سعت إلى الدفع في اتجاه المصادقة عليها، لاسيما حلفاء أميركا الذين رأوا في المعاهدة حداً من خطر الانتشار النووي. والحقيقة أن الأمر هنا لم يتعلق فقط بمزايا المعاهدة، وهي كثيرة، بل تعادها إلى الولايات المتحدة التي لم تزل بحاجة إلى التحلي بقدر من الإجماع الداخلي والتوافق السياسي لمواصلة قيادتها للعالم. فقد كانت فكرة تعثر أميركا في قضايا داخلية بسيطة، مزعجاً للعديد من القوى العالمية التي مازالت تحتاج إلى الحضور الأميركي على الساحة الدولية لإحداث التوازن المرغوب. وفي هذا الإطار أدرك الجمهوريون، حتى أولئك منهم الكارهون لأوباما، أن أميركا لا تحتمل أكثر من رئيسها الحالي ذاته وأكثر من جهة لاتخاذ القرار. وقد كسب أوباما هذا التقدير عندما أصغى هو نفسه إلى انشغالات الجمهوريين وسعى إلى معالجتها. هذا ولن يقف هذا التوافق داخل الكونجرس حيال القضايا الدولية على معاهدة "ستارت" الجديدة بالنظر إلى تعدد القضايا الأخرى وتنوع التحديات العالمية التي يتعين على أميركا التعاطي معها مستقبلاً؛ مثل إيران والصين والحرب المستمرة في أفغانستان والمساعي المتواصلة لإحلال الاستقرار في العراق... دون أن ننسى عدداً من المشكلات الأخرى التي تنتظر الحل مثل المصادقة على اتفاقيات التبادل الحر مع كوريا الجنوبية وكولومبيا وباناما، فضلاً عن الحفاظ على موازنات كافية لتمويل السياسة الخارجية والدفاعية الأميركية. ولعل من حسنات المعاهدة التي صادق عليها الكونجرس أنها تمضي في طريق سياسة ضبط العلاقات التي أطلقها أوباما، وهي سياسة تعول عليها أميركا لحل مجموعة من القضايا العالقة بين البلدين وتسوية بعض الخلافات القائمة، إذ رغم المرور من مرحلة المعاهدة وتحدياتها، تظل مشاكل أخرى أهمها احتلال روسيا لجزء من الأراضي الجورجية، والتعاطي مع السياسة الداخلية الروسية، لاسيما القمع الذي تواجهه المعارضة هناك، والتضييق الذي يتعرض له الناشطون والمدافعون عن حقوق الإنسان. وتسعى الولايات المتحدة من خلال ضبط علاقاتها مع روسيا إلى استمالة موسكو للموقف الأميركي من إيران وتشجيعها من أجل الضغط على طهران فيما يتعلق ببرنامجها النووي الذي يثير المخاوف الغربية. ولو أن الجمهوريين رفضوا المصادقة على المعاهدة، لكان اللوم في عدم تحسن العلاقات الأميركية الروسية سيقع عليهم. أما وقد تم تمرير المعاهدة فلا يوجد من يلام في حال انتكاسة العلاقة بين البلدين سوى موسكو نفسها، لكن ليست روسيا الوحيدة التي تتعين محاسبتها، بل أيضاً الإدارة الأميركية نفسها، وهو ما سيقوم به الكونجرس بشقيه، الديمقراطي والجمهوري. ومن تلك الأسئلة التي يتعين توجيهها إلى الإدارة من قبل الكونجرس: كيف يمكن للولايات المتحدة طمأنة حلفائها في أوروبا الشرقية بشأن النوايا الروسية في المنطقة؟ وكيف يمكن الحفاظ على استقلال جورجيا وسيادتها وضمان عودة الأراضي التي انتزعتها منها روسيا؟ وأخيراً ما هي الطريقة الأمثل للتعامل مع الكرملين وتضييقه على المعارضة والحركات الاحتجاجية في البلاد؟ ومع ذلك من المهم أيضاً التذكير بأن التصديق على المعاهدة يتجاوز تحسين العلاقات الروسية الأميركية، لطرح أسئلة أخرى ناقشها الجمهوريون، ويجب التركيز عليها، وتتناول مواضيع في مقدمتها منظومة الدفاع الصاروخي، وتحديث الترسانة النووية الأميركية، لاسيما ونحن نعيش عصراً تسعى فيه العديد من الدول إلى امتلاك قدرات نووية وتتعاظم فيه احتمالات الانتشار النووي، ما يحتم تطوير منظومة دفاعية قادرة على حماية أميركا وحلفائها. واليوم بعد تمرير المعاهدة، يأمل العديد من المراقبين أن تُطوى صفحة الصراع السياسي الذي احتدم على مدى الشهور السابقة حولها ليلتفت السياسيون الأميركيون إلى القضايا العالمية المهمة التي تحتاج إلى توافق يتعالى على الصراعات الحزبية الضيقة ويعكس قوة أميركا واستمرار قيادتها للعالم.