أغرب تناقضات حزب التحرير" الإسلامي، اعتماده "الفكر"، كما يدّعي، طريقاً لإعادة الدولة والخلافة الإسلامية، وتورطه بعكس هذا الادعاء، في العديد من المحاولات الانقلابية، في الأردن والعراق ومصر وتونس وغيرها، واشتراكه منذ فترة في مغامرات الأصوليين المتشددين والجهاديين في أواسط آسيا وأوروبا، وبخاصة بريطانيا. بعد سنوات من الغياب النسبي عن الساحة السياسية، يقول د. بشير موسى نافع، الباحث بمركز الجزيرة للدراسات: "عاد حزب التحرير خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ليجذب اهتماماً واسعاً في آسيا الوسطى، يُتهم حزب التحرير بتغذية حركات التمرد والمعارضة الإسلامية لأنظمة الحكم. في مصر، تُحاكم مجموعة من الشبان المسلمين البريطانيين في 2003 بتهمة إنشاء تنظيم للحزب يهدف إلى قلب النظام. وفي بريطانيا، عقد فرع الحزب مؤتمراً عالمياً للخلافة الإسلامية في ملعب ويمبلي الشهير بمدينة لندن في أغسطس 1994، أثار معارضة واسعة من الأوساط اليهودية البريطانية. ثم أعقبه صيف العام التالي بمظاهرة صاخبة في "ميدان الطرف الأغر"، رفع فيها الشعارات المعارضة للديمقراطية والعلمانية الغربية، ودعا الحكومة البريطانية للإسلام، وبعد تفجيرات لندن في صيف 2005، أعلن رئيس الوزراء البريطاني عزمه منع الحزب من العمل في بريطانيا، مع أن الحزب لم يدعُ مطلقاً لاستخدام العنف". تأسس الحزب، على يد محمد تقي الدين النبهاني المدرس والقاضي الشرعي الفلسطيني، خريج الأزهر 1932، وكان ظهور الحزب ما بين 1951-1953 رداً على حدث النكبة الفلسطينية من جانب، وعدم اقتناع النبهاني بأساليب "الإخوان المسلمين" في العمل والتعبئة. وبينما كان "البنا"، مؤسس "الأخوان"، داعية وزعيماً شعبياً بدأ دعوته وهو في العشرينيات من عمره، كان "النبهاني" لدى انطلاق دعوته، في الأربعينيات من عمره، "يميل إلى التفكير الفلسفي، ويعزف عن الاختلاط بالجموع". ما انطباع الآخرين عن الشيخ النبهاني يومذاك؟ ينقل أحد الباحثين الأردنيين عن "زهير كحالة"، المدير الإداري للكلية العلمية الإسلامية، التي تولى "النبهاني" فيها التدريس عام 1951 لطلبة الصفوف الثانوية، مادة الثقافة الإسلامية ما يلي: "كان متأثراً بكتب سيد قطب وبخاصة أفكاره وطروحاته حول العدالة الاجتماعية في الإسلام، وكان النبهاني يقوم بتدريس الكتاب لطلاب الكلية العلمية الإسلامية. كان النبهاني يضع على رأس القائمة السوداء بريطانيا، ويثنِّي بأميركا، ويثلِّث بالاتحاد السوفييتي، ويطلق على الجميع لفظ كافر مستعمر. وتفرغ لقيادة الحزب فاستقال من التعليم في الكلية وأخذ يتنقل بين الأردن وسوريا ولبنان يحمل دعوة الحزب التي شملت هذه الأقطار". تأسس "حزب التحرير" على أرضية الخلاف مع الأخوان المسلمين حول دور الأخلاق في إصلاح الأمة، وحول مرتكزات أخرى. ويقول "أحمد الداعور" إن النبهاني اختلط بالبنا، وقال عنه: "لقد وجدتُ الشيخ عالماً ذكياً مجتهداً، واستمع إلى البنا وحاوره، "إلا أنه لم يجد بُغيته في الطريق الذي رسمه البنا مع تقديره واحترامه لجهوده". وكان البنا يهاجم الحزبية في مصر، ربما خشية من أن ينافسه أحد، ويحبذ التعتيم والتعميم والزئبقية في توصيف جماعته وحقيقة مقاصد حركة الأخوان المسلمين. أما النبهاني، فكان يُعرِّف حزب "التحرير" كـ"حزب سياسي مبدؤه الإسلام، فالسياسة عمله والإسلام مبدؤه، وهو يعمل بين الأمة ومعها لتتخذ -أي الأمة- إعادة الإسلام إلى الحياة والدولة والمجتمع، قضية مصيرية لها، وليقودها -أي الحزب- لإقامة الخلافة". فالهدف إقامة الخلافة، والعمل يتركز على "تغيير الأفكار غير الإسلامية الموجودة في المجتمع إلى أفكار إسلامية، حتى تصبح رأياً عاماً عند الناس ومفاهيم راسخة تدفعهم لتطبيقها والعمل بمقتضاها". وقد اعتبر "الإخوان"، يضيف د. عماد، حزب التحرير من أشد منافسيهم، لدرجة اتخاذ قرار بفصل أي عضو يتصل بالحزب، كما جرت عدة محاولات لردم الهوة بينهما بلا نتيجة. وقد شعر "الإخوان" في الأردن وفلسطين وسوريا بخطورة الحزب على مستقبلهم وأنه أصبح من أشد منافسيهم. وهاجم صهر البنا "سعيد رمضان" أفكار النبهاني علناً، وتوسط في الأمر سيد قطب، الذي عرض عليه العمل ضمن "الإخوان"، فقبل النبهاني على شرط أن يكون الإخوان في الأردن منفصلين عن قيادة الإخوان في القاهرة، فرفض الإخوان ذلك، عندها قال سيد قطب: "دعوهم فسينتهون من حيث بدأ الإخوان". كما نصح مؤسس "الجماعة الإسلامية" الباكستانية أبو الأعلى المودودي، الإخوان بإهمال "التحريريين" قائلاً: "لا تجادلوهم، دعوهم للأيام يموتون". وهاجمهم من سوريا، ومن على المنبر، الشيخ "محمد الحامد"، الأب الروحي لتيار الإسلام الأصولي السوري، وفتحت مجلة "حضارة الإسلام"، التي كانت تنطق باسم "الإخوان" المسلمين في سوريا، صفحاتها للكاتب الإسلامي "محمد سعيد رمضان البوطي"، فكتب فيها مقالة لاذعة النقد ضد حزب "التحرير"، ملمِّحاً في نهاية المقال إلى عمالة الحزب للإنجليز، متهماً الشيخ في تصريح لاحق بالاتصال شخصياً بالسفارة البريطانية في لندن. وانتقد الشيخ "عبدالله عزام"، القائد الإخواني الفلسطيني- الأردني، الذي نظم توافد الأفغان العرب خلال الثمانينيات على أفغانستان، حزب "التحرير"، وكذلك فعل الداعية "فتحي يكن" مؤسس "الجماعة الإسلامية" في لبنان في مؤلفاته ومقابلاته الصحافية. ويقول د. عبدالغني عماد: "إن عبدالكريم زلوم، خليفة الشيخ النبهاني، يعتبر المذهب السلفي الوهابي "هو من المذاهب الإسلامية، وصاحبه الإمام محمد بن عبدالوهاب مجتهد بين المجتهدين". أما الشيخ ناصر الدين الألباني، أبرز علماء التيار السلفي في بلاد الشام، فإنه يأخذ على حزب التحرير، "أنه يقيم للعقل البشري وزناً أكثر مما أقامه الإسلام له، تأثراً بالمعتزلة، ومن هنا جاء عدم قبول حزب "التحرير" بحديث الآحاد في العقائد، وهذا ما يخالف سبيل المؤمنين ويترتب عليه عدم إيمان التحريريين بعذاب القبر ومسائل أخرى". يزعم "حزب التحرير" أنه يقتفي السنة النبوية في إقامة الدعوة والخلافة، عندما وُجهت هذه الدعوة إلى الكفار والمشركين. ولا يعتبر الحزب بلاد المسلمين اليوم "دار إسلام"، ويعتبر المجتمع الذي يعيش فيه المسلمون مجتمعاً غير إسلامي، ولكنه لا يقول إن مجتمعات العالم الإسلامي مجتمعات "جاهلية" أو "دار كفر" بشكل مباشر. وقد حدّد الحزب طريق سيره بثلاث مراحل: الأولى: مرحلة التثقيف لإيجاد أشخاص مؤمنين بفكرة الحزب. الثانية: مرحلة التفاعل مع الأمة لتحميلها الإسلام. الثالثة: مرحلة استلام الحكم وتطبيق الإسلام تطبيقاً شاملاً وحمل رسالته إلى العالم. ويتعهد الحزب في أدبياته بالتصدي الفكري لعقائد الكفر وأنظمته، وللعقائد والمفاهيم الفاسدة. وبالكفاح السياسي ضد الدول الكافرة المستعمرة، وكشف خططها وفضح مؤامراتها، و"مقاومة حكام البلاد العربية والإسلامية وكشفهم ومحاسبتهم والعمل على إزالة حكمهم الذي يقوم على أحكام الكفر وأنظمته". ولم يعترف الحزب بالحدود الدولية بين الدول العربية والإسلامية ولا كياناتها الوطنية أو إرادة شعوبها. وإذا قامت "الدولة الإسلامية" في أي قطر إسلامي، يصبح فرضاً على المسلمين أن يبايعوا حاكمها بيعة طاعة وانقياد، "سواء أكان هذا القطر كبيراً كمصر أو تركيا أو إندونيسيا، أو كان صغيراً كألبانيا والكاميرون ولبنان".