في أيّام "اليسار"، أوائل السبعينات، كان يقول لنا الأكبر سنّاً ما يظنّونه حكمة وما نظنّه سخافة. كانوا يقولون: لماذا تفضّلون العيش في بريطانيا وفرنسا عليه في روسيا والصين؟ وأحياناً كانوا يردفون: لماذا يهرب ألمان شرقيّون إلى ألمانيا الغربيّة ولا يهرب ألمان غربيّون إلى ألمانيا الشرقيّة؟ السؤال كان يبدو لهم وجيهاً وحكيماً لأنّ الحياة، عندهم، لا بدّ أن تستجيب للأفكار وتطاوعها، وإلاّ كانت الأفكار خاطئة وكان حاملها إمّا ساذجاً و"مُفوّتاً"، وإمّا دجّالاً يقهر سواه بأن يرسلهم إلى حيث تنتصر أفكاره. وأمر كهذا يشبه الاستنكاف عن خوض "معارك المصير"، أو الهرب منها، مع مطالبة الجيران بإرسال أبنائهم إلى ساحات الحروب. إنّه، إذاً، موقف لا أخلاقيّ وغير مسؤول. بالنسبة لنا، كان يبدو السؤال سخيفاً لأنّ الحياة تقيم في مستوى الشأن العاديّ، فيما الأفكار تقيم وحدها في مستوى المهمّ والتاريخيّ. وهذا تمييز جوهريّ بين التفكير الليبراليّ الذي يمنح أولويّته للواقع والتجربة، ولا يطالب الأفكار بغير تحسين قدرتنا على قراءة الواقع والتجربة هذين، وبين التفكير "التوتاليتاريّ" الذي يمنح أولويّته للأفكار والإيديولوجيا، أيّاً يكن الواقع والصور التي يتمخّض عنها. والتمييز الجوهريّ هذا نصادف تأثيراته حين نقرأ عن كتّاب شيوعيّين لا حصر لهم غادروا الشيوعيّة ما إن زاروا بلدانها، كما فعل أندريه جيد بعد زيارته الشهيرة إلى موسكو في 1936، أو كما فعل لوناتشارسكي وكاندينسكي بعد انتصار أفكارهما في روسيا 1917. والتمييز نفسه نصادف قلّة الاكتراث به حين نسمع أصواتاً تتحدّث عن الاشتراكيّة و"قيادة الطبقة العاملة" بعد انقضاء عشرين عاماً على سقوط دزينة من أنظمة الاشتراكيّة دفعة واحدة. أو حين نسمع خطباء عن الانتصارات يتلون خطبهم، وهم جالسون على عتبات بيوت مهدّمة وسط أشلاء عائلات منكوبة. والقول بأولويّة الأفكار على الواقع، ومن ثمّ رفض امتحانها عليه، مسكون بروحيّة ريفيّة تقدّس ما هو غريب، وترى إلى العبقريّة بوصفها غرابة وإدهاشاً. والأفكار، في العرف هذا، لا يليق تعريضها لامتحان الواقع. وما لا يُعرّض لهذا الامتحان يغدو غريباً ومدهشاً. وغنيّ عن القول إنّ الريفيّة هذه متخمة بنزعة دينيّة تشتقّ الواقع من أفكارها، بقدر ما تلهو بالواقع هذا، وبليّ عنقه، من أجل أن يوائم تلك الأفكار. والعبارة الشهيرة المنسوبة إلى بيانات الأحزاب الشيوعيّة ليست قليلة الدلالة: "لقد جاءت الأحداث تبرهن صحّة ما ورد في التقرير...". لكنّ عدم التكيّف مع الواقع وعدم الاعتراف به يتحوّلان إلى موقف عُصابيّ: هكذا رأينا الشاعر والسورياليّ الكبير بول إيلوار يقول، وهو يتحدّث في بوخارست في أكتوبر 1948: "جئت من بلد لم يعد أحد فيه بعد اليوم يضحك، وما من أحد يغنّي. فرنسا في الظلّ. لكنّكم أنتم اكتشفتم إشراقة شمس السعادة". وبعد سنة، في هنغاريا، قال هو نفسه: "في أعوام قليلة ستغدو السعادة القانون الأعلى". ولئن كان إيلوار شيوعيّاً، فعواطفه هذه انتشرت بين مثقّفين وفنّانين كثيرين لم ينضمّوا أبداً إلى الحزب. وفي 1948، بعد الانقلاب الشيوعيّ الشهير على ديموقراطيّة تشيكوسلوفاكيا، بدت سيمون دوبوفوار متأكّدة من أن الشيوعيّين يسيرون على الطريق إلى النصر في كلّ مكان. وكان معاصرها "بول نيتزان" قد كتب، قبل عدة سنوات، أن الفيلسوف الثوريّ لا يستطيع أن يكون فعّالًا إلاّ إذا اختار الطبقة التي تحمل الثورة فيما الشيوعيّون ممثّلو هذه الطبقة. يومذاك كان البوليس السرّيّ يُحكم قبضته على الكتلة السوفييتيّة، بينما الغرب يرمّم ديموقراطيّاته، ويعاود البناء الذي أتاحته له خطّة مارشال الأميركيّة. كاريكاتور هذه العُصابيّة نلقاه اليوم على وجوه "مناضلين" غربيّين لم يعد في وسعهم تحمّل "نموذج الاستلاب"، الذي يسيطر على بلدانهم في الولايات المتّحدة وأوروبا، فقصدوا الضاحية الجنوبيّة من بيروت طلباً للبديل! وهناك مسألة عمريّة بالتأكيد، فالإقرار بالواقع يجعل صاحبه على شيء من الاكتهال. لقد كان إدموند بيرك، الناقد البريطانيّ للثورة الفرنسيّة، يتحدّث عن "حكمة الأجيال" المتضمَّنَة في ما نعرف، مستنكراً أعمال "التأسيس من صفر"، كما لو أنّ لا قَبْلَ قبلنا. وغير واحد من دارسي الفكر الغربيّ المعاصر لاحظ أنّ معظم مثقّفي أوروبا البارزين، في غربها وليس في الوسط والشرق فحسب، كانوا، إبّان الحرب العالميّة الثانية، من صغار الأعمار، وأنّهم لم يعرفوا الحرب العالميّة الأولى كملحمة رؤيويّة، فجاءت الحرب الثانية توفّر لهم هذه المتعة القياميّة. يصحّ هذا، مثلاً، في "سارتر" ودوبوفوار الفرنسيّين صحّته في ألبرتو مورافيا الإيطاليّ. والعمر الصغير تلائمه المُثل العليا، فضلاً عن السعي وراء تأويل نقيّ للعالم طُرد منه الواقع "الملوّث" أو "المدنّس". وكثيراً ما واكب الحماسة العارمة للتغيير، عند جلّ المثقّفين الراغبين في إحراق العالم "الملوّث والبورجوازيّ"، خجلٌ بالموقع الطبقيّ لأصحابه، قياساً بالبروليتاريا الممجّدة التي يُفتَرض بها، حسب الأبجديّة الماركسيّة، أن تقودنا إلى المستقبل، وهذا، بدوره، حذفٌ لجزء من الواقع، أو احتيال عليه، أو مسرَحَة له. وفي هذا أيضاً جرعة رفيعة من الدينيّ وقد جُعل ذرائعيّاً، ثمّ إنّ مُحبّ الأفكار الميّتة، التي ينجم موتها عن عدم تعريضها للحياة، مضطرّ لأن يذهب أبعد بحيث يعتنق الديماغوجيا مذهباً. فإن قلتَ له: "أليس ذهابنا بالملايين إلى الغرب للدراسة أو للعمل، وذهابنا بالملايين، ونحن في بلداننا، إلى المؤسّسات الغربيّة للتعلّم أو الاستشفاء، دليلاً على تفوّق الغرب ونموذجه؟"، هرب إلى اتّهامك بـ... العنصريّة! وهو أيضاً يكذب. تراه في مقاهي الحمرا والجمّيزة ببيروت، وأحياناً تضبطه في مقاهي الوسط التجاريّ. لكنّ النموذج الذي يبشّرنا به، من دون أن يرتاده هو نفسه، هو الضاحية الجنوبيّة. وهو، تبعاً لآرائه، كان ينبغي عليه أن يقصد الضاحية، وأن يقضي فيها وقت فراغه. لكنّه حين لا يفعل، فيما يمضي ممتدحاً ذاك النموذج، يكون كمن يريد معاقبة أهل الضاحية بنموذجهم الممدوح. هكذا فالشعبويّ لا يكره، في العمق، شيئاً كما يكره "الشعب".