لاشك أن المفاوضات الإسرائيلية- الفلسطينية التي انطلقت مع بداية الشهر الماضي دخلت مرحلة بالغة الحرج؛ ذلك أن الفلسطينيين يطالبون بتمديد التجميد الإسرائيلي للبناء في مستوطنات الضفة الغربية الذي انتهى سريانه مؤخراً، وإلا فإن المفاوضات ستتوقف. هذا في حين أكد نتنياهو، الذي يبدو غير قادر على مواجهة شركائه "الصقور" المتطرفين في الائتلاف الحكومي، في أكثر من مناسبة أنه لن يكون ثمة تمديد. وفي هذه الأثناء، تسعى إدارة أوباما جاهدة في الكواليس، مستعملة استراتيجية العصا والجزرة، إلى إقناع الطرفين بالعمل سويّاً للحيلولة دون انهيار المفاوضات. وقد تنقذ الجامعة العربية الموقف، عبر حث القيادة الفلسطينية على مواصلة المفاوضات إذا قام الإسرائيليون بلفتة حسن نية عبر تبني موقف وسط، مثل تعليق مؤقت لبناء المستوطنات. ولكن هل تستطيع الحكومة الإسرائيلية الحالية إظهار حسن نية وحل التناقضات الكثيرة التي تطبع المقاربة الإسرائيلية تجاه السلام؟ لقد أدلى نتنياهو بعدد من التصريحات التي يزعم فيها أنه مهتم حقّاً بإنجاز اتفاق سلام مع الفلسطينيين؛ غير أنه بات يجد على نحو متزايد أن ادعاءه بشأن الرغبة في التوصل إلى سلام، ورغبته في الوقت نفسه في البقاء في السلطة وإرضاء شركائه "الصقور" في الائتلاف الحكومي، يمثلان هدفين متناقضين لا يستطيع التوفيق بينهما، وذلك لأن مرجعية المفاوضات الحالية تقوم على خريطة الطريق -مخطط السلام الذي ترعاه اللجنة الرباعية الدولية (الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة)- التي فرضت التزاماً واضحاً على الإسرائيليين بوقف بناء المستوطنات بشكل كامل في الأراضي المحتلة. ثم إن استقدام السكان المدنيين إلى الأراضي المحتلة أمر غير شرعي وفق القانون الدولي؛ وقد اعتبرت محكمة العدل الدولية في رأي استشاري طلبته الجمعية العامة للأمم المتحدة أن بناء المستوطنات في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانوني. كما أخبر أوباما الجمعية العامة للأمم المتحدة بأن الولايات المتحدة لا تعترف بشرعية بناء المستوطنات في الأراضي المحتلة. وبالتالي، فإنه يجب الاعتراف بأن أي اتفاق سلام دائم لا يمكن أن يقوم على اللاشرعية -وهي حقيقة كثيراً ما يتم تجاهلها في النقاش الدائر في كل من إسرائيل والولايات المتحدة حول مفاوضات السلام- حقيقة يرفضها رئيس الوزراء الإسرائيلي ويعارضها بشكل جذري شركاؤه المتطرفون في الائتلاف الحكومي. والحال أن هذا التناقض لا يمكن أن يحلّ إلا من قبل مبادرة من الحكومة الإسرائيلية نفسها إن هي كانت صادقة حقاً في رغبتها المعلنة في التوصل إلى سلام مع الفلسطينيين. ولكن هل يمكن شراء الصدق؟ وإن كان ذلك ممكناً، فإلى أي حد يمكن الاعتماد عليه؟ هذه هي المخاطرة التي تقوم بها إدارة أوباما. فخلافاً لإدارة بوش الأب التي هددت، بعد الرفض الإسرائيلي لحضور مؤتمر مدريد للسلام الذي رعته الولايات المتحدة عقب حرب العراق الأولى في 1991، بقطع المساعدة الاقتصادية الأميركية عن إسرائيل، فإن إدارة أوباما تحاول شراء اهتمام إسرائيلي بعملية السلام؛ حيث أكد "مايكل أون"، السفير الإسرائيلي في الولايات المتحدة، تقارير سابقة الأسبوع الماضي تفيد بأن أوباما عرض على إسرائيل مجموعة من "الحوافز" على شكل ضمانات أمنية. هذا بينما زعمت تقارير أخرى أن أوباما عرض على نتنياهو ضمانة بأنه لن يطلب مزيداً من تجميد الاستيطان مستقبلاً ووعد باستعمال حق "الفيتو" ضد أي قرار لمجلس الأمن الدولي ضد إسرائيل العام المقبل. ويقال إن نتنياهو رفض العرض بسبب غياب دعم سياسي داخل حكومته. وإذا تأكد رفض نتنياهو، فإنه سيمثل تطوراً محرجاً لإدارة أوباما وسُيضعف تأثيرها لدى حليفها الرافض -وهو أمر لا يبشر بنجاح مفاوضات السلام؛ غير أنه سيؤكد أيضاً قصر نظر رئيس الوزراء الإسرائيلي وسيُضعف ادعاءه أنه يرغب حقاً في السلام وقادر على التوصل إليه. ادعاء تعرض لضربة قوية مؤخراً عندما استغل وزير الخارجية الإسرائيلي ليبرمان منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة لرفض عملية السلام قائلًا إن تحقيق السلام مع الفلسطينيين "يمكن أن يستغرق بضعة عقود". وإذا كان التجاهل والخطاب غير الدبلوماسي للرجل -وهو أكبر مسؤول دبلوماسي في إسرائيل- لافتين للانتباه، فإنهما غير مفاجئين على اعتبار أنه سبق له أن أدلى بتصريحات أخرى متطرفة في الماضي؛ ولكن المذهل حقاً هو أنه استغل المحفل الدولي لإضعاف رئيس الحكومة التي هو عضو فيها وللترويج لآراء ومواقف حزبه العنصري كما لو كان يستعمل منبراً إسرائيليّاً لحملة سياسية داخل إسرائيل. ولعل الأكثر مدعاة للعجب هو رد الفعل المحتشم لنتنياهو الذي، بدلاً من أن يقيل وزير خارجيته فوراً، اكتفى بإصدار بيان يقول فيه إن موقف ليبرمان لا يمثل السياسة الإسرائيلية الرسمية. ولكن من هو ليبرمان؟ أليس مسؤولًا إسرائيليّاً؟ إنه تناقض آخر واضح ابتلي به رئيس الوزراء الإسرائيلي ويُضعف ادعاءه بأنه مهتم بالسلام مع الفلسطينيين وقادر على التوصل إليه. ويمكن القول إن ليبرمان هو صاحب اليد الطولى في التنافس والنزاع الذي يواجه فيه نتنياهو. فمؤخراً، اعتمدت الحكومة الإسرائيلية قَسم المواطنة الإسرائيلية المدعوم من قبل ليبرمان -والمستهدِف بشكل خاص لعرب إسرائيل- الذي ينص على أداء أي شخص يتقدم بطلب الحصول على الجنسية الإسرائيلية للقسم بالولاء لإسرائيل كـ"دولة ديمقراطية ويهودية" -وهو تناقض آخر كثيراً ما يغيب عن النقاش. إن الشحنة الإيديولوجية التي جلبها نتنياهو وشركاؤه المتطرفون في الائتلاف الحكومي إلى الموقف الإسرائيلي الرسمي من مفاوضات السلام ما زالت حافلة بالتناقضات. وما لم تتم مواجهة وتسوية هذه التناقضات بشكل جوهري وصريح، فإن معظم ما يمكن تحقيقه من مفاوضات السلام الحالية -إذا سُمح لها بأن تأخذ مجراها- سيكون اتفاق سلام يُنهي النزاع رسميّاً ولكنه لن يُنتج تسوية دائمة تدفن الكراهية واللامساواة.