بعد مرور سنتين على إدارة أوباما، يبرز تغير واضح في سياستها الخارجية لا يمكن إغفاله. فإذا كانت المرحلة الأولى انصبت على ترميم صورة أميركا حول العالم من خلال إظهار وجه أكثر ودية للجميع، لاسيما أمام الخصوم، فإن المرحلة الثانية ستقوم على ممارسة أميركا لنفوذ أكبر حتى ولو كان ذلك يعني تحدي البعض وإحباط البعض الآخر. وأيضاً إذا كانت المرحلة الأولى قد ركزت على "إعادة ضبط" العلاقات الأميركية مع القوى الكبرى، مثل الصين وروسيا، فهي ستعمل في المرحلة القادمة على تقييم حدود وإكراهات سياسة إعادة الضبط تلك، وتبني مواقف صارمة عندما تتباين وجهات النظر. وكما أن المرحلة الأولى التي اهتمت بتكريس التعاون بين القوى العالمية الصاعدة والتركيز على مفهوم مجموعة العشرين الغامض وغير المفهوم، فهي ستفسح في المرحلة الثانية المجال للتعامل مع حلفاء أميركا الأساسيين في العالم الديمقراطي. وإذا كانت أميركا في المرحلة الأولى قد سعت إلى الابتعاد عن تركة بوش، فإن الإدارة الأميركية في المرحلة الثانية ستتخلى عن القيود التي فرضتها على نفسها عبر الاستمرار في رعاية المصالح الأميركية التقليدية، حتى لو كانت تلك المصالح ضمن أجندة بوش. ومع أن هذا التحول مازال في طور التخمين، فإن الإشارات والدلائل على حدوثه عديدة ومتنوعة تسير في اتجاه تأكيده بدل نفيه. ومن تلك الدلائل القوية عودة أميركا إلى حلفائها التقلديين، وفي هذا الإطار لنقارن الخطاب الأخير لوزيرة الخارجية الأميركية أمام مجلس العلاقات الخارجية مع خطابها في المنبر نفسه خلال الصيف الماضي، ففي خطابها الأقدم خلال 2009 بدت كلينتون وكأنها محاضرة في إحدى الجامعات تتحدث عن المثاليات عندما تطرقت إلى استخدام أميركا "للقوة الناعمة" لحل "المشاكل القائمة في عالم متعدد الشركاء"، وفيما ركزت في خطابها ذاك على العلاقات الأميركية مع روسيا والصين والبرازيل وباقي القوى الصاعدة، مرت مرور الكرام على حلفائنا الديمقراطيين ولم تخصص لهم سوى فقرة في آخر الخطاب. لكن في خطابها هذه السنة كان لافتاً إشارة كلينتون إلى روسيا والصين باعتبارهما أنظمة سلطوية وليسا فقط شركاء للتعاون، بينما أفردت عشر فقرات من خطابها للإشادة بالعلاقات الأميركية مع "حلفائنا المقربين الذين يتقاسمون معنا القيم والمصالح الأساسية" سواء في أوروبا أو أميركا الشمالية أو آسيا. والأمر لا يتعلق هنا بلغة خطابية، بل بتوجه جديد للإدارة الأميركية اتضح بالخصوص في شرق آسيا عندما انتقلت الإدارة من فكرة ضبابية تقوم على تقديم "ضمانات استراتيجية" للصين، إلى تبني سياسة ملموسة ترتكز على تطمين حلفائنا وشركائنا بأن الولايات المتحدة ستدافع عنهم ضد الضغوط المتنامية للقوة العسكرية الصينية. وهكذا رأينا كيف أعقبت تصريحات كلينتون القوية في هانوي خلال يوليو الماضي، والمعارِضة للمساعي الصينية للهيمنة على بحر جنوب الصين، أعقبتها تصريحات أخرى لا تقل قوة من الرئيس أوباما خلال اجتماع عقده مع قادة دول جنوب شرق آسيا. كما أن العلاقات الأميركية الهندية التي عانت في المرحلة الأولى، تشهد الآن انتعاشاً حقيقياً في وقت يستعد فيه أوباما لزيارة نيودلهي. ومع أن السبب وراء هذا الاندفاع الآسيوي إلى الحضن الأميركي يرجع في جزء منه إلى السلوك الصيني في الإقليم وتخوف دول المنطقة من التمدد الصيني، فإنه لا يمكن إنكار الجهود التي بذلتها الإدارة لتكريس تحالفنا الآسيوي. أما في أوروبا فقد سعت كلينتون بكل ما تستطيع لإبراز الاهتمام الأميركي بتلك الدول المتوجسة من النوايا الروسية، لاسيما بعد التنديد الصريح الذي أكد عليه أوباما وهيلاري خلال الاجتياح الروسي لجورجيا، بل إن وزيرة الخارجية قامت في يوليو الماضي بزيارة لجورجيا وبولندا لإعادة ضبط السباق مع روسيا ووضع النقاط على الحروف. ومن القرائن الأخرى على التحول الجاري في السياسة الخارجية الأميركية، العودة إلى الديمقراطية؛ فقبل عام لم يكن ليخطر على بال أحد تخصيص أوباما ثلث خطابه أمام الأمم المتحدة للحديث عن الديمقراطية، أو استخدام عبارات مثل "الحرية" و"الاستبداد"، لما اقترنت به هذه اللغة في أذهان الناس من سياسة بوش السابقة. ولم يفت هيلاري أيضاً التركيز في خطاباتها على الدول التي "تسحق الحريات العامة والمجتمع المدني"، وتوجيه انتقادات لاذعة للأنظمة السلطوية في العديد من مناطق العالم. ويضاف إلى ذلك، عودة أميركا إلى الساحة الدولية، فقبل عام كان الحديث السائد عن عالم ما بعد أميركا، فبدا أوباما وكأنه الرئيس الذي يجسد هذا الواقع، لكن اليوم نلمس تفاؤلا أكبر لدى المسؤولين الأميركيين، حيث تكلمت هيلاري عن "اللحظة الأميركية"، وزادت كلمات أخرى لو قيلت في المرحلة الأولى لأدرجت في إطار الغطرسة الأميركية، مشيرة إلى أن "العالم يعول علينا للقيادة الكونية". فما الذي يفسر هذا التغيير؟ الحقيقة أنه يرجع في جزء منه إلى الجهود الناجحة التي بذلها أوباما لتغيير صورة أميركا في العالم بحيث أصبح مستساغاً اليوم التعامل مع قيادة أميركا للعالم مقارنة بأيام بوش. لكن أيضاً يرجع هذا التغير إلى الحقائق العالمية؛ فإيران لم تتجاوب مع سياسة الانخراط والتواصل، كما أن الصين عجزت عن إثبات نفسها كشريك مسؤول، بل ظهرت أكثر كقوة سلطوية لا تتردد في استعراض عضلاتها العسكرية في الإقليم، هذا بالإضافة إلى أن الولايات المتحدة ليست بلد "الواقعيين" إنما بلد مازال متشبثاً بالقناعات الأساسية حول تفوق الديمقراطية على ما عداها من أشكال الحكم الأخرى، مؤمنة بأنها ستبقى دائماً من المحددات الرئيسية للسياسة الخارجية الأميركية. -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"