كانت ولادة تركيا الحديثة من رحم الدولة العثمانية عملية مؤلمة سياسياً وعسكرياً، فقد وجدت الدولة الواسعة الأرجاء نفسها تخسر دولها وأقاليمها في القرن التاسع عشر تحت تأثير نمو المشاعر القومية ودعم أوروبا وروسيا لبعض هذه الحركات. ولهذا استماتت النخبة التركية من أجل الحفاظ على الأناضول وما تبقى من الدولة العثمانية في أوروبا... ولم يكن قد بقي الكثير! كان على الوطنية التركية أن تنتقل من إطار الامبراطورية الإسلامية المتعددة القوميات إلى الدولة القومية، وأن تطور فلسفة الدولة الحديثة من بين ركام الدولة العثمانية وهجوم القوى الخارجية وبخاصة اليونانيين، على الأرض التركية بعد أن خسر العثمانيون، حلفاء ألمانيا، الحرب العالمية الأولى، وفقدوا حتى امتداد الدولة والخلافة في العالم العربي. رافقت حركة إنقاذ الدولة العثمانية مساع لغوية شكلت البداية الحقيقية، في رأي بعض الباحثين، للقومية أو الوطنية التركية الحديثة. وما من باحث ومفكر عثماني في القرن التاسع عشر إلا وكرس للقضية ما وسعه من اهتمام. من هؤلاء أدباء وكتاب مثل ابراهيم شناسي وضياء باشا ونامق كمال، ممن تحدثوا عن الحاجة إلى تبسيط اللغة الرسمية وتنقيتها من التعابير الثقيلة والتخلص قدر المستطاع من الكلمات العربية والفارسية التي كانت تغرق اللغة التركية العثمانية. كان هؤلاء، يقول الباحث التركي الأميركي د. كمال كربات، صحافيين يريدون الوصول للجمهور والدعاية للأفكار الجديدة، وكانوا يشعرون بالضرورة الملحة لكتابة أدب جديد من رواية وشعر ومسرح ونقد. كما عمد فؤاد وجودت باشا إلى وضع كتابهما النحوي "القواعد العثمانية" عام 1851، فبدأت بذلك حركة تأليف في مجال القواميس وقواعد اللغة. وقد أدت هذه المجهودات اللغوية إلى الاهتمام بماضي وثقافة الشعوب التركية قبل الإسلام في آسيا الوسطى، فباتت القومية التركية محور الثقافة الوطنية لا الدين. وسرت هذه الاهتمامات اللغوية والقومية إلى الشعوب التركية المختلفة كالتتار والقوقاز والقازان، واستُخدمت الصحافة في هذا المجال بشكل حثيث. وتحول هذا الاهتمام التركي إلى ظهور "الطورانية"، وهي حركة قومية تركية مغالية، تسعى لتوحيد كل الشعوب التركية في آسيا، وتضفي هالة من القدسية على وحدتهم القومية والثقافية واللغوية. فصارت هذه الحركة تنافس القومية السلافية التي كانت تروج لها روسيا القيصرية، والقومية الألمانية التي تدعمها بروسيا. واقترح يوسف أكجور أوغلو بضرورة قيام الدولة بعد الآن على أساس العرق التركي، لا الاتحاد العثماني أو الإطار الديني، وكان "أكجور أوغلو" قد استقى أفكاره من مصادر ألمانية. أما محمد أمين يورداكول (1896-1944) فأعلن في كتابه "أشعار تركية" للمرة الأولى اعتزازه بلغته ودينه معاً. وذهب إلى أن اللغة والإيمان والوحدة العرقية من أهم مكونات الأمة. وهذا التوجه عزل بلا شك المسيحيين في الدولة العثمانية. وكانت القومية في تركيا، يضيف د. كربات، قبل سيطرة حزب "تركيا الفتاة" على مقدرات الدولة عام 1908، قد تطورت كحركة ثلاثية الأبعاد وإن كانت متداخلة. فكان المحافظون يدعمون التوجه الإسلامي فيها، وكانت بيروقراطية الدولة تساند الميول العثمانية، فيما كان الجيل الشاب مع الوطنية التركية. وكان المحافظون والبيروقراطيون يساندون السلطان عبدالحميد الثاني، فيما نظر "القوميون الأتراك" إلى الإسلام كعنصر في تأسيس الأمة، ولكن لم تكن أي جماعة منها تملك تصوراً واضحاً للمستقبل. كانت الدولة العثمانية لا تزال متعددة القوميات والأديان والملل تسير على السنن القديمة في الإدارة الحكومية. وكانت جماعة "تركيا الفتاة" تَعِدُ جمهورها العثماني بالحريات الليبرالية والتعددية، ولكن ما أن استلمت السلطة عام 1908 حتى تبنّت السياسة الرسمية للدولة العثمانية. وقد كتب "طلعت باشا" زعيم الجماعة، الذي أشرف على تهجير الأرمن ولقي فيما بعد حتفه بعد هروبه إلى ألمانيا على يد أحدهم، يقول في مذكراته: "إن تلبية مطالب الأقليات المسيحية الاستقلالية كان سينجم عنها تفكيك امبراطورية عمرها ستمائة سنة، بناها أجدادنا عبر تضحيات لا حدود لها". عمدت "تركيا الفتاة" في السلطة إلى سياسة التتريك وتسهيل هيمنة الأتراك على كل مجال سياسي واقتصادي على حساب الأقليات، ومن بينها الأرمن واليونان، فأثارت بذلك حفيظة كل المعارضين من أبنائها وفعالياتها الاقتصادية. غير أن نشاط هذه الجمعية شجع كذلك الأدب القومي التركي والأبحاث. فظهرت دورية "تركيا وطن الأجداد" وكذلك دورية "أقلام شابة" عام 1911 التي حاولت الترويج للغة تركية حديثة مبسطة تختار مواضيعها من واقع الحياة في البلاد. وقعت القومية التركية كتيار منذ عام 1908 تحت تأثير الأديب "ضياء جوق ألب" الشاعر والزعيم الوطني وداعية الطورانية أو التتريك التام، التي قام بها "حزب الاتحاد والترقي". وقد تبنى ضياء فلسفة قومية تطغى فيها مصلحة الأمة على مصالح الفرد. كما حاول إقامة بناء سياسي يجمع بين الإسلام جوهراً للأمة، والحضارة الغربية كمظهر خارجي لها، والتركية كمصدر للهوية والمثل. غير أنه بعد تفكك الامبراطورية، أكد على الشخصية التركية للنهضة وعلى العلمانية. لم تقرر النظريات والاجتهادات القومية مصير التيار في تركيا بل الوقائع والأحداث. ومنها حرب البلقان عام 1913، والحرب العالمية الأولى الحدثان اللذان دمرا الدولة العثمانية. فقدت الامبراطورية ممالكها المسيحية وأقاليمها وولاياتها في منطقة الشرق الأوسط، وبفقدان الدول العربية خسرت الدولة العثمانية فكرة "الجامعة" أو الرابطة الإسلامية التي ارتكزت عليها سياستها الخارجية لعقود. بل إن مجرد حقيقة قيام المتطوعين العرب بمهاجمة واغتيال الجنود العثمانيين، الذين كانوا يعتقدون أنهم في الحجاز وغيرها للدفاع عن حظيرة الإسلام "لم يحطم فكرة الجامعة الإسلامية، بل وكذلك فكرة الأخوة الإسلامية ذاتها". والواقع أن التمرد على القوانين العثمانية كان قد تكرر في مناطق وولايات عربية كالحجاز والإحساء واليمن، تعرض خلالها الجنود الأتراك للقتل، كما في الاصطدامات المتكررة مع الحركة الوهابية قبل تكليف الوالي محمد علي باشا بوضع حد لنفوذهم ونموهم. وربما الذي آلم الأتراك من العرب وثورتهم خلال الحرب العالمية الأولى إنما كان وقوفهم مع بريطانيا ضد الدولة العثمانية. ولم تضع الحرب نهاية لفكرة "الجامعة الإسلامية" التي اتكأت عليها سياسة العثمانيين في العالم الإسلامي، بل وكذلك طموحاتها بإنشاء "جامعة طورانية" تجمع الشعوب التركية فيما يشبه الكومونولث. فقد بدت فكرة اختراق الامبراطورية الروسية لاقتطاع المناطق والبلاد التي تقطنها شعوب تركية مستحيلة التنفيذ. كما كانت الحكومة السوفييتية الجديدة بعد الثورة عام 1917، أولى الحكومات التي اعترفت بحكومة الوطنيين والقوميين الأتراك التي تزعمها مصطفى كمال أتاتورك. وبفقد الامتدادين الإسلامي والطوراني، بعد الحرب العالمية الأولى، لم يجد القوميون العثمانيون أمامهم سوى شبه قارة جرداء هي الأناضول فيما كان الأعداء يحتلون كل الأراضي الساحلية الخصبة، وكان السلطان العثماني نفسه أسيراً بيد قوى الحلفاء في أسطنبول. ومن هنا كانت حرب تحرير الوطن التي بدأت عام 1919 تحت قيادة مصطفى كمال أتاتورك ذات سمات جديدة فريدة بالنسبة للشعب التركي، إذ كانت هذه عملياً فرصة الحياة والموت لإنقاذ ما تبقى من أرضهم. ومن هنا صار أتاتورك يخاطب في الجماهير الروح الوطنية التركية داخل أرضها الحالية. ولم يعد يخاطبها كأمة لها رسالة لتوحيد العالم الإسلامي أو لقيادة الشعوب التركية في آسيا. ومما عزز هذه الروح هيمنة القوى الأجنبية المحتلة على الأرض التركية بعد فوز الحلفاء، وكذلك زحف اليونانيين على سواحل الأناضول نفسها. ولم تكن المهمة سهلة، إذ كان على أتاتورك ورفاقه لا أن ينقذوا تركيا عسكرياً وجغرافياً فحسب، بل وأن ينفخوا في مشاعرها الوطنية والقومية إلى أقصى حد. أعلن أتاتورك إذن أن "الأمة التركية" ينبغي أن تُوجِدَ هذه المرة دولة تحمل اسمها وتتسم بخصالها. وهكذا أدت مجهودات أتاتورك إلى ميلاد "الدولة التركية" والنظام الجمهوري وكيان الدولة.. قبل تبلور الأمة!