ينتقد الكثيرون المجهود العربي الراهن في فهم تركيا الحديثة، فالمكتبة العربية لا تزال فقيرة في هذا المجال، والأعمال السياسية والثقافية التركية، وكذلك البحوث الأكاديمية التي تتناول أحياناً العلاقات العربية - التركية لا تترجم، واهتمام طلبة الجامعات بالثقافة واللغة التركية محدود جداً. ونقف قليلاً عند اللغة التركية، التي يصنِّفُها علماء اللغة ضمن مجموعة لغات "الأورال - ألتاي"، التي يجمعها البناء القواعدي النحوي والوحدة القاموسية. ويقول الباحثون إن لهجة اسطنبول تشكل أساس اللغة الأدبية التركية، كما أن هذه اللغة تضم لهجات عديدة. وقد استخدم الأتراك لقرون طويلة الألفباء العربية في كتاباتهم في المرحلة التي تشكل بداية "التركية العثمانية"، والتي بقيت متداولة من النصف الثاني من القرن الخامس عشر، وحتى العقد الثالث من القرن العشرين. ففي شهر أغسطس من عام 1928 يقول الباحثان العراقيان د. عبدالجبار غفور و د. شامل العلاف، أقر المؤتمر اللغوي الذي عُقد باسطنبول اتخاذ أبجدية جديدة للغة التركية على أساس الحروف اللاتينية، بدلاً من الحروف العربية. وفي الأول من نوفمبر من عام 1928 أقر "المجلس الوطني الكبير" الأبجدية الجديدة التي تتألف من 29 حرفاً. ومنذ بداية الثلاثينيات أصبحت الألفباء الجديدة (الحروف اللاتينية) ملزمة لسكان البلاد". ويضيف الباحثان أن اللغة التركية، قد ورثت كلمات عربية وفارسية كثيرة جداً، ودخلتها كلمات كثيرة كذلك من اللغات الأوروبية، وبخاصة الفرنسية والألمانية، مع بداية احتكاك الأمبراطورية العثمانية بالغرب، ومن اليونانية والبلغارية والأرمينية بحكم علاقات الجوار. وقد دخلتها منذ الحرب العالمية الثانية الكلمات الإنجليزية بشكل واسع بسبب وجود الأميركيين في تركيا والعلاقات الواسعة التي تربط الطرفين. وكانت تركيا قد حاولت الحد من استخدام الكلمات الأجنبية، كما في العالم العربي وإيران وغيرهما عن طريق اشتقاق واستخدام الكلمات التركية من اللهجات المختلفة، بدلاً من المفردات غير التركية. وقد تزعمت "الجمعية اللغوية التركية" هذه المجهودات، حيث ترسخت بعض هذه الكلمات المشتقة من أصول تركية في اللغة الأدبية، "غير أن الأكثرية الساحقة منها، والتي فرضت قسراً على اللغة التركية بقيت غريبة وغير مفهومة لدى الأوساط الشعبية الواسعة من السكان وخاصة غير المتعلمين والذين استمروا في استخدام المفردات السابقة وخاصة العربية منها. وفي عام 1970 استُحدثت "جمعية المحافظة على اللغة التركية"، والتي تهدف إلى الحفاظ على اللغة التركية المفهومة بين السكان". وخير دليل على محدودية نجاح هذا المجهود "التنقوي" في اللغة التركية بقاء عدد هائل من الكلمات العربية. وقد اخترت للقارئ من القاموس عدة كلمات من أصول عربية واضحة، وهناك ربما آلاف غيرها! من هذه الكلمات التركية - العربية: Kalp قلب، Kanaat قناعة، Bayi بائع، Adet عادة، Adil عادل، Adet عدد، Ijya إحياء، Alim عالم، Matbu مطبوع، Matem. ويسلط بعض المؤلفين الأتراك الأضواء على تنوع جذور اللغة التركية المعاصرة بتفاصيل ثرية، ومن هؤلاء المؤرخ "يلماز ازوتونا" في كتابه "تاريخ الدولة العثمانية"، اسطنبول 1990، فيؤكد أن "عدد الكلمات العربية الموجودة في اللغة التركية، كما في الفارسية، يتجاوز بكثير الـ 10 آلاف كلمة، وعدد الكلمات الفارسية في اللغة التركية يبلغ الآلاف أيضاً". ويضيف أنه توجد في اللغة التركية 900 كلمة يونانية الأصل، كما توجد اليوم في اللغة اليونانية كلمات تركية الأصل. وتوجد في اللغة الصربية 9 آلاف كلمة تركية، وفي البلغارية 6778 كلمة. أما في اللغة الألبانية فإن ثلث القاموس من أصول تركية، كذلك اللغة الأرمينية التي يُعرف أنها "مليئة بالكلمات التركية بشكل كثيف، وقد لا تقل عن عشرة آلاف كلمة. وفي اللغة العربية الفصحى المتداولة اليوم كلمات من أصول تركية وفارسية كما هو معروف، ولكن عدد هذه الكلمات أكثر من اللهجات العامية، وبخاصة في مصر والشام والعراق. وفي اللهجات الخليجية الكثير منها، يعدد بعضها المؤرخ الكويتي المعروف سيف مرزوق الشملان في كتابه الواسع التداول "من تاريخ الكويت". ومن هذه الكلمات في اللهجة الكويتية التي لا تزال قيد الاستعمال "بالطو" أي معطف، و "بَيْرَق" أي عَلَم، و "عرموط" أي كمثرى، وطابور وتنورة! وممن له ملاحظات قيمة في هذا المجال المستشرق المعروف "لويس برنارد"، صاحب البحوث القيمة في الشؤون العثمانية والتركية وعموم بلدان المنطقة العربية. غير أن برنارد يرى أن الحروف العربية لم تكن تناسب أصوات وحركات اللغة التركية مما جعل تعلم العربية نفسها صعباً. ولم تكن مشكلة اللغة التركية العثمانية حروفها فحسب، بل وكذلك إغراقها عبر القرون بتعابير وبلاغيات عربية وفارسية، مما أثقل كاهلها وجعل تعابيرها مصطنعة ومملة. وكان أول دعاة إصلاح اللغة التركية محمد منيف باشا (1828 - 1910)، من رجال التأليف والترجمة، حيث دعا في محاضرة له في "الجمعية العلمية العثمانية" في مايو 1862 الى إصلاح التهجئة التركية تسهيلاً لانتشار العلم، وعرض نموذجه المعدل. وبعد أشهر قام الأذربيجاني "آخوند زاده فتح علي" بتقديم مشروع لغوي آخر، وعرضه على السلطان، إلا أن الجمعية العلمية العثمانية، رغم تقديرها لأفكار المشروع، لم تر فيه حلاً للمشكلة. وفي عام 1869 أثارت المسألة الرأي العام، وذلك عندما قام أحد أتباع "جمعية تركيا الفتاة" بنشر مقال في صحيفة الحرية "حُريّت" التي كانت تصدر في المنفى بلندن، ينتقد فيه تعليم الأطفال في المدارس التركية، إذ بينما كان التلاميذ الأرمن واليونان واليهود في مدارسهم الدينية يتقنون قراءة الصحف خلال ستة أشهر وكتابة الرسائل خلال عام، كان الطلبة المسلمون يدرسون سنوات عديدة ولا يحسنون قراءة أي صحيفة. وأثار المقال ردود فعل متعددة من بينها الرد الذي بعثه الى الصحيفة "مالكولم خان"، سفير إيران لدى الباب العالي. وقد أكد السفير في رده المكتوب باللغة الفارسية تدهور نظام التعليم في العالم الإسلامي، وصبّ نقده على الحروف العربية التي تعيق المسلمين عن اللحاق بالغرب بسبب صعوبة التعليم بها، بل ذهب "مالكولم خان" الى أن السبب الأساسي في ضعف وفقر واضطراب العالم الإسلامي وانتشار الاستبداد فيه.. هو الأبجدية العربية! وكان الأديب والمصلح العثماني الشهير "نامق كمال" ممن شارك في هذا السجال. وهو يُعد أشهر كُتاب الترك (1840 - 1888)، فهو يقر الأديب في مداخلته المنشورة رداً على السفير الإيراني، بدور الجهل، في علل تركيا، ولكنه لا يوافق على اعتبار الأبجدية العربية مسؤولة عن ذلك كله. ويقول إن الأمية نادرة في أميركا وبريطانيا، بعكس إسبانيا رغم استخدام الأحرف اللاتينية في هذه الدول. وفي عام 1878 كتب" نامق كمال" مرة ثانية في مشاكل اللغة التركية والأحرف العربية وأقر ببعضها، كالكتابة من اليمين الى الشمال، ولكن هذه الأحرف تحتاج إلى الإصلاح والتعديل لا الحذف والتبديل. ويقول "لويس" في كتابه "صعود تركيا الحديثة" إن الإشارة الى ضرورة إصلاح الأحرف العربية، قد تكررت من حين لآخر وبخاصة فيما يتعلق بمشاكل الطباعة. وظهرت مع قيام الحرب العالمية الأولى جوانب أخرى من المشكلة تتعلق بصعوبة المراسلات العسكرية التي تستوجب الدقة الفائقة في الاستخدام وتحاشي الغموض والخطأ. وأصدر وزير الحربية العثماني "أنور باشا" تعليماته باستخدام بعض الحروف العربية المعدلة في مجال الاتصالات، وتوجيه الرسائل. إلا أن تأثير مثل هذه الخطوات ظل محدودا ومؤقتاً. ومع نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918 كان استخدام حروف الكتابة العربية في اللغة التركية لا يزال صامداً، رغم كل التحديات. واستمر هذا الصمود عشر سنوات ونيف قبل أن تعصف بها قرارات الثورة الكمالية عام 1928، حيث جرى، كما ذكرنا، إقرار استخدام الأحرف اللاتينية.