الجميع تقريباً يتمنون أن تبذل حكومات العالم المزيد من الجهد لإحياء الاقتصادات العليلة، فلا أحد هناك يريد أن يرى ما يطلق عليه"الركود المزدوج"، أي الركود الذي يعقبه تعاف ثم العودة إلى الركود مرة ثانية. ومن المؤكد أن قادة الدول العشرين التي اجتمعت في تورونتو، لا يريدون أن يروا مثل هذا النوع من الركود. ففي الدول المتقدمة الرئيسية، الواحدة والثلاثين دولة الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، بلغ عدد العاطلين عن العمل 46.5 مليون شخص، وهو رقم يزيد بنسبة خمسين في المئة عما كان عليه الحال عام 2007. ولا يتعلق الأمر هنا بأن الناس لا يجدون عملًا فقط، وإنما هناك عواقب أخرى عديدة منها على سبيل المثال أن البطالة لمدد طويلة يمكن أن تؤدي إلى تآكل المهارات، وتدني المستوى الاجتماعي، أو العطالة الدائمة. والسؤال الذي يطرح نفسه على ضوء ذلك هو: ما الذي تستطيع الحكومات أن تفعل أكثر مما فعلت؟ ليست هناك إجابة واضحة على ذلك. هل يعني ذلك أننا قد وصلنا إلى آخر حدود علم الاقتصاد؟ قد يكون الأمر كذلك بالفعل. فكما قال "كينز" ذات مرة فإن القادة كثيراً ما يكونون أسرى لنظريات الاقتصاديين - الأحياء منهم والأموات - علاوة على أن الاقتصاديين يختلفون من جانبهم حول الكثير من الأمور، وهذه الاختلافات لا تتوقف عند حد بل أنها متزايدة. من المسلم به أن الاستجابات الأولى للأزمة الحالية (التخفيضات الحادة في معدلات الفائدة، وحزم إنقاذ البنوك، والإنفاق التحفيزي)، كانت هي التي ساعدت على تجنب الركود. ولكن المهم فيما حدث هو أن الأزمة قد ضربت المنطق الذي تستند إليه كافة النظريات الاقتصادية الرئيسية: النظرية الكينزية، والنظرية النقدية، ونظرة"التوقعات الرشيدة"، بحيث أصبح الاقتصاد في الوقت الراهن علماً مزعزعاً غير جدير بالثقة، خصوصاً وأن الفوضى الفكرية السائدة حالياً توفر سياقاً ملائماً للنزاعات السياسية في عالم اليوم سواء في الداخل أو في الخارج. لتوضيح ذلك، علينا مثلًا أن نأخذ موضوعاً مثل الميزانيات ونسأل أنفسنا سؤالاً هو: هل ستؤدي العجوزات الأكبر في الميزانيات، إلى تحفيز الاقتصاد وخلق الوظائف، كما تقول النظرية الكينزية؟ أم أن الارتفاع الهائل في ديون الحكومات يهدد في حد ذاته بحدوث أزمة مالية أخرى؟ المنطق "الكينزي" حول هذه النقطة يبدو غاية في الإحكام: فلو كان إنفاق المستهلكين والمشروعات الجارية على حد سواء ضعيفاً، فإن الحكومات تلجأ إلى زيادة الطلب من خلال خفض الضرائب أو زيادة الإنفاق. ولكن ما يحدث في الواقع هو أن ديون الحكومات الزائدة، تضع أو تفرض في الحقيقة حدوداً مالية وسيكولوجية لا يمكن تجاوزها. فنسبة الدين الحكومي للاقتصاد إلى(الناتج المحلي الإجمالي) تبلغ في الوقت الراهن 92 في المئة في فرنسا، و82 في المئة في ألمانيا، و83 في المئة في بريطانيا بحسب تقارير"بنك التسويات الدولية" في سويسرا، وهي حدود لا يمكن تجاوزها بحال. هذا يعني أن منافع العجوزات العالية يمكن أن تضيع بأشكال عديدة: مثلا، من خلال معدلات الضرائب الأعلى، إذا كانت نسبة الدين الأعلى تخيف المستثمرين، أومن خلال الهبوط في مستويات الإنفاق الخاص، إذا فقد المستهلكون والمشروعات على حد سواء الثقة في مقدرة الحكومات على التحكم في الميزانيات، أو من خلال حدوث أزمة مصرفية إذا هبطت قيمة رأس مال البنوك - الذي يتكون في جزء كبير منه من السندات الحكومية. فهناك إذن نوع من شد الحبل بين حوافز العجوزات الأكبر، وبين المخاوف التي تغذيها تلك العجوزات. فإدارة أوباما تقول، اعتماداً على افتراضات مواتية، إن برنامج حوافز بقيمة 787 مليار دولار قد خلق أو أنقذ ما يقرب من 2.8 مليون وظيفة. ربما يكون الأمر كذلك وهو ما يرجع من حيث الجوهر لأن المقرضين لم يفقدوا الثقة بعد في سندات الخزينة الأميركية. أما في أوروبا، فإن الوضع مختلف لأن الحدود الموضوعة قد تم تجاوزها. فالديون اليونانية الضخمة التي تجاوزت "كل الحدود"( نسبة الدين إلى الناتج القومي الإجمالي 123 في المئة) أدت إلى حدوث ارتفاع حاد في أسعار الفائدة، مما دفع دولًا مثل ألمانيا وبريطانيا للانخراط بهمة في الوقت الراهن لمناقشة خطط لخفض مستويات العجز لديهما لتفادي مصيراً مماثلًا لمصير اليونان. في الواقع أن بعض الاقتصاديين يؤمنون أن خفض الميزانيات يمكن أن يحفز النمو الاقتصادي تحت ظروف معينة. فهناك مثلًا دراسة قام بها عالما الاقتصاد "ألبيرتو إليسينا" و"سيلفيا ارداجنا" وجدت أن تقليص الميزانيات في الدول الغنية، كان يؤدي إلى تأثير توسعي في الاقتصاد، عندما كان يتم التركيز على خفض الإنفاق، وليس على زيادة الضرائب. هذه النتيجة تجعلنا نفترض أن الخطط الموضوعة لميزانيات تلك الدول كانت تفضل التأثير على معدلات الفائدة والثقة، دون الحاجة إلى إضعاف الحوافز الداعية للعمل والإنفاق. الخلاصة هي أن هناك الكثير من الأشياء التي لا يفهمها الاقتصاديون. وهو أمر لا يدعو للدهشة في الحقيقة. فنحن على سبيل المثال، نجد أن أنصار نظرية "التوقعات الرشيدة"، وهي نظرية يقوم طرحها الرئيسي على الطريقة المثلى التي يمكن أن يستجيب بها الناس للأحداث والوقائع الاقتصادية، لم تتوقع الهلع المالي والانهيار الاقتصادي، الذي حدث إبان الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي. والحقيقة أن الانفصال بين النظرية والواقع في الوقت الراهن يبدو مثيراً للمخاوف وللتشاؤم في آن. ففي الأزمة الأخيرة تمثلت الاستجابة في البداية في الدعوة لإنفاق المزيد من النقود من خلال تخفيض نسبة الضرائب، لتشجيع الناس على الإنفاق بدلاً من الإدخار، ومن خلال زيادة العجز في الميزانية.ولكن في حالة مثل حالتنا الراهنة حيث معدلات الفائدة منخفضة، والعجز مرتفع.. ما الذي يمكن أن يحدث إذا وقعت أزمة أخرى؟ روبرت صمويلسون محلل اقتصادي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"