لعلَّ هذا الصَّيف أسخن أَصياف العراق. بلاد تُدار بوزارة انتهت صلاحياتها منذ أربعة أشهر، وبالمعاندة لم تُعلن كوزارة تصريف أعمال. ائتلافات سياسية عاجزة العجز كلُّه عن حل النِّزاع الذي أدخلته المحكمة العليا، أو أحد قضاتها، بمتاهة الكتلة الأَكبر عدداً! لا ذنب لقاضي قُضاتِها إنما يعود الغموض للدِّستور، ففيه ما الرُّقيات ذات الأَلغاز، والكلُّ يحتكم إليه في نزاعه، على المناصب والثَّروات، فظهر مصطلح الأَراضي المتنازع حولها! والعبارة توحي أن السِّيوف قد سُّلت وسيتجالد المتنازعون على "بلد مبتلى". ما زاد هذا الصَّيف سخونة، مع الحرارة التي فاقت الخمسين مئوية، أن وجد العراقيون أنفسهم استثناءً بين شعوب الدُّنيا، يمرَّ عقدٌ من الأَلفية الثَّالثة، حيث تصنيع الكهرباء من الشَّمس، بينما هم يعودون إلى الفوانيس و"المهفات" (المراوح اليدوية)، يصاحب ذلك عسرٌ في بقية الخدمات، وشح مياه، ومن شدَّةٍ رفع البصريون: "اليوم نتظاهر... وغداً نعتصم... وبعدها نثور"! وعلا صوت أهل كربلاء: "يا دولة الفانوس وين الكهرباء؟"! واضح أن في الشِّعار الأخير استعارة، فرئيس الوزراء، منذ إبراهيم الجعفري، أخذ يُلقب بدولة رئيس الوزراء! ولو كان غير ذلك لقالوا: "يا سلطة الفانوس"! قيل (دولة) لقب عثماني، أُزيل، ثم أُحيي من جديد للتعظيم، مع أن العظمة ليست لمنصب رئيس الوزراء إنما لجالب الكهرباء. لم يعرف العراق وزارة خاصة للكهرباء إلا بعد 2003، فمن قبل كانت ملحقة بوزارة الصِّناعة والمعادن، ولعلَّ ترقيتها إلى وزارة له صلة بإعادة الإعمار، فكلُّ شيء بات مرتهناً بالتَّيار الكهربائي، لا بتيار آخر. ولا ندري إذا كان حاكم العراق بريمر سمع بالشِّعار الذي رفعه لينين (ت 1922) في ثورة أكتوبر(1917): الاشتراكية تساوي: الكهرباء زائد السُّوفييت (المجلس المحلي)! في حملة لتطوير الأَرياف، عاشت الكهرباء وانقرض السُّوفييت. ولخصت عراقية شُّعار الوحدة بين الدِّيمقراطية والكهرباء (صيف 2003)، عندما ناشدت معاتبة: "وين الدِّيمقراطية... وين الكهرباء؟..."! قالتها ببساطة متناهية، يغلب على الظَّن أنها لم تسمع بشعار لينين ولا بالسُّوفييت، ولم تخمن ما قصده الحاكم الأَميركي من ترقية الكهرباء إلى وزارة خاصة. لم تكن للكهرباء كلُّ هذه الأَهمية في حياة العراقيين، إلى درجة أنها من السَّطوة أن تُقيل الوزراء، وبعدها الوزارة جملةً، فعهود طويلة والنَّاس يتبردون بالمروحة اليدوية (المهفة)، وهي من نعمة شجرة النَّخيل وسعفها، أو المروحة السَّقفية التي كانت تُصنع من الخيش (الكَونية بلغة أهل العراق) والعيدان، أكثر استعمالها كان بدوائر الدَّولة وبيوتات الأَغنياء، يحركها شخص يجلس طول النَّهار لهذه المهمة، وكانت مستعملة في العصر العباسي. أما اللَّيل، فالسطوح المسطحة تعوض عن التَّبريد، حتى أن سفير آخر خلفاء بني العباس، أستاذ الدار يوسف بن الجوزي (أَعدمه المغول 656 هـ) إلى ملك الرُّوم السنة 641 هـ، عاد يحكي ما شاهده من الغرائب بإنطالية، حيث اجتمع بالملك، ومنها "ليس بها دار بسطح مسطح بل مسنم كالجمل، جميعه ميازيب لكثرة تواتر الغيوث" (الحوادث الجامعة). كذلك ظلَ البادكَير والسِّرداب بالبيت البغدادي والنَّجفي ينوب عن مكيفة الهواء، وينوب البئر والكوز عن الثَّلاجة. وللإضاءة ظل العراقي، إلى عهد قريب، يجمع بين الفانوس (اللالة) والمصباح الكهربائي، ومن الطَّريف أن مفردة الفانوس في العربية تعني: الشخص النَّمام (القاموس المحيط)، بينما الاسم من اليونانية يعني: آلة الإضاءة (الكرملي، مجلة لغة العرب)! أخذت تلك الأدوات بالاضمحلال بعد إشاعة التَّيار الكهربائي، لكنها سرعان ما استعادت وجودها وسوقها الرَّائج. وعلى حدِّ اطلاعي ليس هناك مَنْ أرخ لدخول الكهرباء إلى العراق، لكن معروف الرَّصافي (ت 1945)، رغم بغضه للإنجليز والعهد الملكي، اعترف قائلاً: "لما دخل الإنجليز بغداد (1917)، وأسسوا مشروع الكهرباء أناروا الطُّرق الرَّئيسة، وابقوا الطُّرق الفرعية تضاء بالفوانيس. وفي العهد الوطني أُنيرت جميع شوارع بغداد، وأزقتها بالكهرباء" (الرَّصافي يروي سيرة حياته). لكن الشيخ جلال الحنفي (ت 2006)، مؤرخ بغداد البارع، قال وهو يتحدث عن إزالة الفوانيس: "أما تاريخ وضع المصابيح في الطُّرقات، فقد كان في شتاء سنة 1885" (الصناعات والحرف البغدادية). وبإضاءة الشَّوارع والطُّرقات بالكهرباء يكون جيل (المضوين) قد اختفى من الوجود، وهم الذين يقومون بتنظيف فوانيس الشَّوارع، وتزويدها بالنِّفط، وإنارتها، واختفت طبقة القِنديلجية، وهم المختصون بإنارة قناديل المساجد (نفسه). افتتحت في العام 1881 أول ماكينة لصنع الثَّلج ببغداد (العلاف، بغداد القديمة)، لكن استعمال الثَّلج كان معروفاً بمناطق العراق الحارة، قال العسكري (ت 395هـ): "إن أول منْ حُمل إليه الثِّلج الحجاج بن يوسف الثَّقفي بالعراق" (الأوئل). وقال سليمان الثَّلاج، في أيام المعتز (قتل 255هـ): "أصل نعمتي من ثمن خمسة أرطال ثلجاً، وذلك أنه عزَّ الثَّلج في بعض السِّنين ببغداد، وقلَّ، وكان عندي منه شيء بعته، وبقي منه خمسة أَرطال". طلبها منه أمير بغداد عبيد الله بن طاهر (ت 300 هـ) لجاريته فأغناه (النَّوبختي، نشوار المحاضرة). كان الثَّلج يمنح مخصصات لأَكابر الموظفين، وحصة الوزير ابن بقية (قتل 367هـ) "في كلِّ يوم ألف رطل ثلجاً" (العامة في بغداد). ولا يُقدم الوزير ابن الفرات (قتل 312 هـ) لضيوفه "في الفصول الثَّلاثة إلا الماء المثلوج". وحل الوزير ظلمة طُّرقات بغداد أنه ما "كان أحد يخرج من عنده بعد المغرب إلا وبين يديه شمعة كبيرة نقية، صغيراً كان أو كبيراً" (الفخري في الآداب السلطانية). على أية حال، ذالك زمان وهذا زمان، وعُقد الأَلسن قد حُلَّت، وحواجز الخوف قد هتكتها الدِّيمقراطية، وترى العراقيين أخذوها شعاراً صادقاً، فأول ما سألوا في تظاهراتهم عن الثَّلج والكهرباء لدى المنطقة الخضراء، فسارع القابعون تحت ظلالها إلى إعلان إخضاعها لنظام التوزيع! لكن بما يُفسر إغفال ساكني "الخضراء" معاناة النَّاس لسبع سنوات! أهو إهمال، أم استعلاء، أم أن أمراً، مثل الكهرباء ليس بأيديهم، إنما هي الشَّركة إيرانية، أشار الوزير إلى قصورها، وكم من أمر خطير متعلق بهذه الشَّركة أو قريناتها! قال أحد قيادات الإسلاميين، من المحافظات الثَّائرة، في انتخابات 2005، وهو يواجه مَنْ ليس من مشربه السياسي: إنهم كإسلاميين ضمنوا النَّاخبين عبر المناسبات الدِّينية، فماذا عند الآخرين! أقول: لو تفحص هذا القيادي لوحةً رفعها المتظاهرون عالياً وسط البصرة، قبل أيام، رُسمت عليها سبابة مقطوعة، ينزف منها الدَّم (ندماً) بدلاً من الحبر الأَزرق!