القتال المتجدد بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني يحمل في طياته مخاطر سياسية جسيمة لرئيس الوزراء أردوغان. فسياساته الداخلية والخارجية على حد سواء سوف تعاني،-حسب كافة الدلائل- جراء هذا القتال. في التاسع عشر من يونيو، قامت قوة من الحزب تعدادها 250 مقاتلًا بشن هجوم على ثكنات عسكرية في منطقة "سمدينلي" في أقصى جنوب شرق البلاد ما أسفر عن مصرع 23 شخصاً من بينهم 11 جندياً، وهو ما يرفع عدد الجنود الذين لقوا مصرعهم خلال الشهور الأربعة الأخيرة إلى أكثر من 50. وقام الكوماندوز الأتراك المدعومين بطائرات الهليكوبتر بالرد على الهجوم، والتوغل 10 كيلومترات داخل الأراضي العراقية، في محاولة لتطويق وتدمير تجمعات مقاتلي الحزب. ويقول الجيش التركي إنه قتل ما يزيد على 130 متمرداً منذ مارس الماضي، ولا شك أن اندلاع العنف مجدداً، يدل على فشل المحاولة التي قام بها أردوغان العام الماضي لوضع نهاية للإرهاب الكردي، من خلال تقديم عرض للأكراد بمنحهم قدرا من الحقوق الثقافية والمدنية أكبر وأوسع نطاقاً مما يتمتعون بها حالياً. من ناحية أخرى من المتوقع أن يؤدي ذلك الاندلاع للعنف مجدداً إلى استبعاد أي أمكانية لإجراء محادثات مباشرة مع الحزب، أو إجراء أي تسوية سياسية مع زعيمه المسجون"عبد الله أوجلان". يعني هذا أن على تركيا أن تعد نفسها لاحتمال وقوع المزيد من الهجمات الإرهابية في الوقت الذي تقوم فيه بشن هجمات أرضية وجوية على المناطق الكردية في تركيا وقواعد حزب "العمال الكردستاني" في شمال العراق. ومحاولة أردوغان للتقارب مع الأكراد، عرضته لنقد مرير من جانب القوميين الأتراك المتعصبين الذين اتهموه أنه يتبع سياسة أدت إلى إضعاف الحملة التركية المناوئة لحزب العمال، بل وذهب البعض من هؤلاء إلى حد المطالبة بإعادة إعلان حالة الطوارئ في المناطق التي يقطنها الأكراد. بالنسبة للمعارضة التركية، يعتبر أي تعبير عن القومية الكردية أمراً محرماً لأنه يحمل في طياته تهديداً محتملًا لتكامل أراضي الجمهورية التركية التي أنشأها "أتاتورك". ونظراً لأن أردوغان أمامه استحقاق انتخابي العام القادم، فإنه لن يكون بمقدوره تجاهل تنامي التيار القومي في البلاد. هناك مؤشرات عديدة على ذلك منها أنه في احتفالية أقيمت في"فان" لتأبين الجنود الذين لقوا مصرعهم في القتال ضد حزب "العمال الكردستاني" ألقى أردوغان خطابا عاطفياً قال فيه: إن حزننا هائل وأسانا عميق، ولكننا لن ننحني، وإنما سندفن حزننا في أعماق قلوبنا. وسوف نحرم هؤلاء الخونة من أن ينعموا بالراحة. وإنني أقولها بمنتهى الوضوح إنهم لن يكسبوا، ولن يحصلوا على أي شيء. وسيذوبون في ظلامهم، ويجفون في مستنقعاتهم، ويغرقون في دمائهم. أننا لم نخف ونتراجع من قبل ولن نفعل ذلك أبداً. لن نستسلم أبداً للعنف وأعمال الإرهاب". وتثار راهناً أسئلة عن سبب إخفاق القوات المسلحة في تعزيز الأمن وتوفير الحماية للمواقع الأمامية على الحدود مع العراق. في هذا السياق عقد مجلس الأمن القومي التركي اجتماعاً حضره الرئيس التركي، ورئيس وزرائه، ورئيس هيئة الأركان العامة الجنرال( فريق أول) "إيلكر باشبوغ"، وغيرهم من كبار المسؤولين للاتفاق على مجموعة جديدة من الإجراءات التي سيتم اتخاذها ضد الحزب.. .كما قرر المجلس زيادة عدد الوحدات العسكرية في المناطق الحدودية، وتطوير أسلوب تقاسم المعلومات الاستخباراتي مع الدول الأخرى، وتشديد إجراءات الأمن في المدن، وتجفيف المنابع المالية للحزب، وخصوصاً تلك التي يوفرها المغتربون الأكراد في الخارج. وكان حزب العمال الكردستاني قد بدأ حملته العسكرية ضد الدولة التركية عام 1984 .. ولكن بعد مرور خمسة وعشرين عاماً على التمرد الذي حصد أرواح 40 ألف شخص، أعلن الحزب وقف إطلاق النار من جانب واحد في أبريل 2009، في خطوة يقول قادة الحزب إن الغرض منها كان تشجيع الجهود المبذولة لإيجاد حل سياسي لمشكلة الأكراد. ولكن الحزب، قال في مارس الماضي، إنه قرر إنهاء وقف إطلاق النار لأن الدولة التركية، على حد زعمه، لم تستجب له كما كان يأمل. وهناك حدثان يبدو أنهما قد غيرا كفة الميزان بعيداً عن التسوية السلمية. ففي أكتوبر الماضي عبرت مجموعة من مقاتلي حزب "العمال الكردستاني" الحدود العراقية، ودخلت تركيا للاستسلام لقوات الجيش التركي، غير أن الاستقبال الحافل الذي قوبلوا به من جانب عشرات الآلاف من الأكراد على الجانب التركي أثار حفيظة الرأي العام في تركيا، وأغضب السلطات، التي وبدلاً من أن تمنح هؤلاء المقاتلين عفوا قررت تقديمهم للمحكمة، حيث تمت إدانتهم. أما الحدث الثاني، فهو قيام المحكمة الدستورية التركية بحظر حزب "المجتمع الديمقراطي الكردي"، بعد أن اتهمته بأنه يشكل الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني. وقد دعا هذا "مراد كاريلان" القائد العسكري للحزب لإعلان إن القاعدة التي كان يمكن أن يبنى عليها الحل السياسي قد هدمت. وأن الأكراد قد أصبحوا مجبرين على الحرب". من بين النتائج المترتبة على اندلاع العنف، تدهور العلاقات التركية- الإسرائيلية المتدهورة أصلاً. ففي الأسبوع الماضي، وفيما بدا أنه إشارة خفية لإسرائيل قال"أردوغان" إن الأمة التركية تعرف جيداً الجهة التي تعمل المنظمة الإرهابية بالنيابة عنها" كما كتبت صحيفة "توداي زمان" التركية اليومية الناطقة بالإنجليزية تقريراً قالت فيه إن أفراداً عسكريين وضباطاً متقاعدين إسرائيليين قد شوهدوا وهم يدربون مقاتلي حزب "العمال الكردستاني" في إقليم كردستان العراق. والعمليات العسكرية ضد حزب "العمال الكردستاني"، يمكن أن تقوض سياسة تركيا الإقليمية الطموحة القائمة على مبدأ "صفر مشكلات" مع جيرانها، كما يمكن أن تلقى بظلالها على مفاوضاتها للحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي، كما أنه من المحتم أن تؤدي أيضاً إلى تخريب العلاقات الاقتصادية الوطيدة التي أقامتها أنقرة مع حكومة إقليم كردستان العراق. ليس هذا فحسب بل يذهب بعض المعلقين إلى حد الشك في أن يكون الهدف النهائي للعنف المتجدد، سواء كانت وراءه أصابع أجنبية أم لا، هو الإساءة لسمعة حكومة أردوغان، تمهيداً لإسقاطها في نهاية المطاف.