العراقيون وشركة "النفط البريطانية"
هل النفط الذي يجري في عروق العراقيين يقيم شعلة لا تنطفئ في عقل وقلب عالم الطب قيس الأوقاتي الذي يمارس الطب في "بريبستريان هوسبيتال" في نيويورك، وهو واحد من أهم المستشفيات الجامعية في العالم، ويشغل كرسي أستاذ الطب في كلية "الأطباء" بجامعة كولومبيا، ويجري أبحاثاً في "الخلايا الجذعية" التي تُستثمر فيها مليارات الدولارات، ويجد الوقت لتحرير "مدونة" في الإنترنت؟ "أفكار هائمة لعالم" هذا هو عنوان "مدونة" الأوقاتي، التي نشر فيها أخيراً خاطرة بعنوان "أنا وشركة النفط البريطانية"، استعاد فيها ذكرياته عن مدرسته الثانوية في بغداد التي كان يديرها "الآباء اليسوعيون". كان غالباً ما يصادف مدرسيه يتمشون في حيهم "المكتظ بالنخيل، والمنازل ملأى بأشجار البرتقال والليمون". والتقى به مرة أحد المدرسين في الطريق إلى المدرسة المحاذي لنهر دجلة وسأله عن موقع منزله. ولم يتذكر الكلمة الإنجليزية لمحطة الوقود التي كانت في شارعهم، فقال إنه يسكن قرب "النفط البريطانية". وساد الصمت والقلق عندما لفظ الحرفين اللذين يرمزان للشركة BP.
يافطات الشركة التي تتكون كما هي الآن من حرفين مخطوطين باللون الأصفر على خلفية خضراء كانت تُشاهد في جميع محطات الوقود في بغداد العائدة للشركة. وعندما أخبر والده عن قلق مدرسه انفجر ضاحكاً، مطمئناً ابنه إلى أنه لم يخطئ؛ فالنفط الذي يُباع بريطاني طبعاً! كان ذلك حسب الأوقاتي أول درس في السياسة لم يدرك معناه إلاّ بعد فترة. وها هو الآن يشرح للأميركيين الذين يعتبرون الشركة البريطانية "العدو رقم واحد" التاريخ الحقيقي وراء هذين الحرفين. "كانت الشركة في عز الإمبراطورية البريطانية ذراع الاستعمار الذي يرسل سفنه الحربية، حيثما تواجه الشركة المشاكل. وكان تاريخها في منطقة الشرق الأوسط شائناً في إيران والعراق، أقدم بلدين منتجين للنفط في مطلع القرن العشرين".
وذلك أول درس تعلمه أجداد العراقيين الحاليين، الذين كانوا يحفظون قصيدة شاعرهم الشعبي عبود الكرخي المنشورة عام 1925، "النفط، آه النفط يا أحرارْ، شّبْ النفط في قلب العراقي نارْ". قصيدة الكرخي تلقي الضوء على الإشكال الحالي بين بريطانيا والولايات المتحدة حول جنسية الشركة. فالبريطانيون يدّعون أن حرفي BP لم يعودا يرمزان إلى جنسية الشركة التي أصبحت، حسب ادعائهم متعددة الجنسيات، ويرفض هذا الادّعاء أوباما الذي بعث رسالة بالإنترنت سخر فيها من طلب رئيس وزراء بريطانيا "مراعاة البريطانيين الذين يستثمرون صناديقهم التقاعدية في أسهم الشركة". وقد لا توجز أي دراسة طبيعة العلاقات بين البلدين الحليفين كما يوجزها قول أوباما في رسالته إنه "لا يملك سوى دقيقة ونصف" للقاء السياسي البريطاني نهاية الأسبوع، ويطمئنه أن سكرتيره الصحفي سيعلن أن "محادثاتنا استغرقت 40 دقيقة، وأنك كنت غاضباً، ومتشدداً في التوصية بالشركة"! وأوباما أول رئيس أميركي يستخدم البريد الإلكتروني، ويسمح بنشر مختارات منه، وفكرتُ بأن أرسل له قصيدة الكرخي التي يذكر فيها "شركات إنجليزياتْ ما في باسْ، لو تثبت حُسنْ نيّاتْ"! لكن فاجأتني رسالته إلى سكرتيره الصحفي التي أعلن فيها عن استعداده لعدم ذكر اسم "الشركة البريطانية" شرط أن يلفظ حرفي BP بلهجة بريطانية!
"ألا من مغيث يغيث هذا الشعبْ، وهل من مجير يجيرنا يا ربْ؟ هذا النفط في قلب العراقي شبْ، وحرق كبداته، وهدم الدار"! هذا المقطع من قصيدة الكرخي افتتح قرناً من عذابات العراقيين، منذ حصول "الشركة التركية" عام 1912 على امتياز التنقيب عن النفط في العراق. وظهر فيما بعد أن الشركة بريطانية، كشقيقتها "الشركة الفارسية"، ووليداتها؛ شركات "النفط العراقية"، و"نفط البصرة"، و"نفط الموصل". ولم يكتشف المسؤولون العراقيون إلاّ في منتصف القرن الماضي أن رئيس شركة "النفط البريطانية" هو المحرك الحقيقي لجميع هذه الشركات.
يروي تفاصيل ذلك مهندس النفط ضياء جعفر الذي تولى خلال العقد الأخير من العهد الملكي مناصب وزارية عدة، وكان المفاوض الرئيسي مع شركات النفط. ويذكر جعفر في كتابه "سيرة ومذكرات" كيف اكتشف خلال المفاوضات عام 1949 "أن الحكومة البريطانية وشركات النفط متفاهمة تماماً". ولم يكن ممكناً للشركات منذ الحرب العالمية الأولى أن تقرر شيئاً مهماً، ما لم تتفق عليه مع الحكومة مسبقاً. ولم يكن للعراق ممثل في مجلس إدارة الشركة، التي كانت ترفض تدريب العراقيين، أو زيادة الإنتاج، أو المناصفة بالأرباح أسوة بشركة "أرامكو" الأميركية آنذاك في السعودية. وبذلت الحكومات العراقية، الموالية لبريطانيا، محاولات مستميتة للحصول على قرض من لندن التي كانت تضع شروطاً تعجيزية، كالموافقة على إعادة ضخ وتصفية النفط في ميناء حيفا بفلسطين المحتلة، والسماح بهجرة اليهود العراقيين، وإعادة إسكان اللاجئين الفلسطينيين في العراق!
هل نستطيع أن نحس بلوعة أجيال من مهندسين عراقيين أذكياء ومقدامين طوروا واحدة من أكبر صناعات النفط الوطنية في العالم عبر قرن من حروب وثورات، وأنظمة متعاقبة، ملكية وجمهورية، موالية للغرب أو معادية له، يرون الآن "الشركة البريطانية" تنال أول عقود ما يسميه نظام بغداد الحالي "جولة التراخيص"، ويتضمن تطوير "حقل الرميلة الجنوبي"، الذي يضم أكبر احتياطيات العراق النفطية، ويقدّر حجمها بنحو 17 مليار برميل؟
هذا الأسى الذي يسكن عميقاً في قلوب العراقيين كيف بلغ الشاعرة الأميركية المشهورة "شارون أولدز"؟ عنوان قصيدة عذبة كتبتها بمناسبة عيد ميلاد قيس الأوقاتي يتكون من الحرفين الأولين لاسمه Q&A. حرف "كيو" الذي يُنطق كالكاف، تقوله بالإنجليزية كلمات ملكة، وتساؤلات، ورباعيات، وفراشات، وسفرجل. وحرف "كيو" يرتعد، ويختلج، ويتعارك، وينقض، و"لا أحد يعرف من أين جاء، لكنه يسافر مع حرف "الكاف" إلى الصحراء". و"عندما نمر بصحيفة مطوية نستطيع أن نسمع من داخلها عويل جميع حروف "كيو"، والتي تروي وتروي قصة العراق"، الذي ينتهي بحرف "كيو"!
وكانت "أولدز" التي تشغل منصب أستاذ الإبداع الأدبي في جامعة نيويورك قد أثارت ضجة، حين رفضت عام 2005 دعوة عشاء وجهتها لها سيدة "البيت الأبيض" آنذاك "لاورا بوش"، وأعلنت في رسالة مفتوحة أسفها لتفويت فرصة الحضور للتعبير عن مشاعرها العميقة المناهضة لحرب العراق، والحديث عن شعراء أطفال مشلولين تماماً عن الحركة والكلام يقولون الشعر بعيونهم التي ترمش لتختار كلمات القصيدة في رقعة الحروف؛ "لكنني لم أستطع تحمل فكرة أن أتناول الطعام من يد السيدة الأولى للإدارة التي أشعلت هذه الحرب". و"فكرتُ بالأغطية النظيفة على مائدتك، والسكاكين اللماعة، ولهب الشموع، ولم أستطع التغلب على شعوري بالغثيان".
Summary