"فوفوزيلا" كمان... وكمان!
لطيف مزمار الفوفوزيلا، بشكله وألوانه، وبخروجه من بيئة معاناة طويلة شكلت جنوب أفريقيا، ثم إنه يوحي ببساطة وسهولة، لكن إذا حاولت النفخ فيه ستفاجأ بأن المهمة أصعب مما تعتقد. وإذ أتيح له الآن أن يغزو العالم كسلعة مونديالية، تذكارية فلكلورية، إلا أنه مرشح لاستخدامات أخرى، فقد يفيد طبيّاً كمقياس لمدى سلامة الرئتين وبذلك يمكن تصنيفه صديقاً للبيئة ولا عزاء للمدخنين، أو لقياس حساسية الأذنين ليواجه اشتباهاً بأنه معادٍ للبيئة لأن أنغامه تخترق مؤشر "ديسيبل" ويحتمل أن يصاب بالصمم كل من يتعرض لها وقتاً طويلاً.
أبدى مشاهدو المباريات في بيوتهم انزعاجاً من هذه الموسيقى الخلفية الملازمة لمجريات اللعب. لجأ بعضهم إلى السدادات القطنية أو إلى أغطية ابتكرت ارتجالاً. حاول بعض القنوات فلترة الصوت ولمن ينجح. شكا بعض اللاعبين من التشويش الذي يتعرضون له، إلى حد جعل المنظمين يفكرون لوهلة في منع الفوفوزيلا في الملاعب، ثم أحجموا، فالمسألة ثقافية والأفضل عدم المسّ بها. الأكيد أن نتائج هذه الظاهرة ستعرف لاحقاً، من خلال مراقبة حالات عينة من المشجعين واللاعبين. ومع دخول السباق إلى كأس العالم مرحلة الحسم، هناك من يطالب بـ"هدنة فوفوزيلية"، أقله لإتاحة الاستمتاع بفنون المنافسة بشيء من الطبيعية، فهذا أول مونديال يفتقد فيه النقل المباشر لأصوات الحاضرين وصيحاتهم، وحتى لإيقاع طبولهم.
الأكيد أن الفوفوزيلا لا يحمل أي شبهة سياسة، أما المونديال فبلى، لكنها سياسة بلا حكومات، فهذه لا تستطيع شيئاً في السباق. إنه ساحة للشعوب والأمم، للمدربين واللاعبين، للحظوظ والفرص، ولأخطاء حراس المرمى، وللحكام الذين ينتظر منهم أن يكونوا أكثر فاعلية من مجلس الأمن الدولي. عالم الكرة فيه عدالة لأن فيه قوانين، عالم الدول يركل القوانين تجنباً للعدالة، فهي مكلفة. أبعد من السياسة، المونديال دراما عالمية. تتلاقى فيها الطموحات وتتواجه في تعطشاتها المتفاوتة إلى الانتصارات، وتنتقل فيها البطولة بين ألوان مختلفة للقمصان.
في الدراما الكروية المتدفقة تتمازج المعايير، وعلى العشب نفسه تعدو أقدام مليونيريي اللعبة الأوروبيين ومعدميها الكوريين الشماليين أو الهندوراسيين. ثم إن أرقام التسديد تحمل معاني ملتبسة، فالإنجليز استشعروا التعادل مع الأميركيين ثم الجزائريين كهزيمتين، والسويسريون وجدوا في فوزهم على الإسبان المرشحين للبطولة كما لو أنه موقعة القرن، والألمان توجسوا من خسارتهم أمام الصرب كأن الفأل السيئ ينذر بالأسوأ، وحتى البرازيليون اعتبروا فوزهم باثنين/ واحد على الكوريين الشماليين كأنه تعادل. وعلى رغم أن الهزيمة كانت قاسية على الجنوب أفريقيين أمام الأوروجوايانيين فإن حلم استضافة المونديال الذي تحقق عوضهم بنصر أكبر. أما الفرنسيون فاستعادوا مرارات سيئول، قبل ثمانية أعوام، ليشعروا بعد تعادل بمثابة هزيمة تلته هزيمة بمثابة إهانة كأنهم باتوا خارج نادي الأبطال، ومع ذلك فإنهم لا يندمون على استبعاد لاعبيهم الجيدين من أصول عربية.
وفي منتصف الطريق إلى الكأس، لا يبدو أن أيّاً من فرق أفريقيا سيكون في الحلقة الضيقة للمنافسة، على رغم إدعاء كهنة -سحرة "الفودو" أنهم بذلوا ويبذلون كل الجهد لتصعيد واحد منها إلى مصاف الأبطال. فإما أن هؤلاء السحرة فضلوا الحياد مع وجود ستة منافسين أفارقة، وإما أنهم لم يتلقوا تضحيات وأعطيات ومكرمات كافية لتمكينهم من التفوق على "الفيفا" في تنظيم مسار المباريات.
في فيلم "أنفيكتوس" (لا يُقهر) كانت ثمة رسالة: فالرئيس الأسود مانديلا كان الملهم لفريق بلاده من "الأفريكانز" البيض الذين أحرزوا "بطولة الريجبي". وعندما آل تنظيم المونديال إلى "بلاد مانديلا" كان ذلك بمثابة تكريم إنساني عالمي للرجل. لكن "الدراما" إياها شاءت أن يغيب عن افتتاح أول مونديال تخاض بعض مبارياته في درجة حرارة تلامس الصفر ويلتحف فيه المشجعون بالبطانيات، لكن أنغام الفوفوزيلا تشعرهم بالدفء.