ثورة الضمير العالمي التي تجلت في تجمع مئات من المتضامنين مع الشعب الفلسطيني في غزة المحاصرة منذ سنوات، تحتاج إلى تحليل علمي عميق. ذلك أن هؤلاء المتضامنين الذين سقط منهم في "أسطول الحرية" تسعة أتراك، وجرح العشرات واعتقل المئات ينتمون إلى حوالى خمس وأربعين جنسية. ويعني ذلك بالضرورة أنهم ينتمون إلى ثقافات شتى وأديان مختلفة. ولكل ثقافة من هذه الثقافات رؤية محددة للعالم، بمعنى نظرة خاصة للكون والمجتمع والإنسان. فالثقافة العربية لها رؤية للعالم تختلف بالضرورة عن رؤية العالم الغربية. فكيف حدث أنه على رغم تباين رؤى العالم الكامنة في صميم وعي المتضامنين، اتفقوا على رؤية واحدة تقوم على أساس رفض الهمجية الإسرائيلية وإدانة السياسات العدوانية التي يتبناها قادة إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وليس ذلك فقط بل اتفقوا على التجمع في سياق مؤسسات مجتمع مدني عالمي أصبح له صوته المدوي في العلاقات الدولية، لجمع المعونات وإعداد الأساطيل البحرية والتوجه إلى غزة لفك الحصار عنها، رغم الخطر الذي قد يتعرضون له من قبل جيش الدفاع الإسرائيلي، الذي سبق له أن هدد بمنع هذه السفن من العبور إلى غزة؟ وكيف نفسر أنه بعد مذبحة "أسطول الحرية" قامت باخرة أخرى هي "راشيل كوري" التي سميت باسم الناشطة الأميركية اليهودية التي قتلت تحت جنازير جرافة إسرائيلية وهي تتضامن في مظاهرة مع الفلسطينيين في غزة ضد العدوان الإسرائيلي؟ وما الذي يفسر تصريحات أحد الزعماء الاشتراكيين الفرنسيين مؤخراً، بأنه يعد أسطولاً للتوجه إلى غزة، وأن الأساطيل لن تتوقف حتى يتم فك الحصار عن الشعب الفلسطيني؟ كل هذه الظواهر بالإضافة إلى المظاهرات الحاشدة التي سارت في عواصم العالم احتجاجاً على البربرية الإسرائيلية تحتاج إلى تأمل، وخصوصاً أن إسرائيل لها هيمنة على وسائل الإعلام الغربي وتغرقه كل يوم بأكاذيبها، بالإضافة إلى التحيز الأميركي الفاضح لصالحها؟ لقد قررنا في مقالنا الماضي -بناء على بحوث علمية موثقة- أن هناك وعياً كونيّاً تبلور في العقود الأخيرة، مما أدى إلى ظهور نسق جديد من القيم تبناه ملايين الناس في مختلف القارات، وأنتج ذلك وحدة في الشعور وتشابهاً في الاتجاهات، وإجماعاً على رفض العنف والحرب والعدوان، واحتراماً للخصوصيات الثقافية لشعوب العالم، وتسامحاً واضحاً إزاء الاختلافات الدينية والعرقية والثقافية، بل وتفهماً لمنطق عديد من الثقافات غير الغربية. والعنوان الذي رصد فيه العلماء الاجتماعيون هذه التحولات الكبرى في القيم والاتجاهات هو "بزوغ نموذج حضاري جديد". ويقررون أنه بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، سقطت النماذج القديمة التي كانت سائدة في العلاقات الدولية والسياسة والاقتصاد والثقافة، وهو ما رصدناه مبكراً في كتابنا "الوعي التاريخي والثورة الكونية" (القاهرة 1995). وبرز بالتدريج نموذج حضاري جديد أطلق عليه "تغير الوعي الكوني"، وقد قرر فيه العلماء الاجتماعيون الذين قاموا بمسح علمي متكامل للكشف عن مؤشراته أنه يأتي بعد مرحلة تاريخية سابقة اتخذ فيها المجتمع الصناعي الرأسمالي الغربي مساراً صداميّاً مع الطبيعة، واتخذ هذا الصدام صوراً شتى مثل ثقب الأوزون والتغيرات المناخية وتجريف الغابات والتلوث البيئي. ويمكن القول إن الأزمة الإيكولوجية الغربية ترافقها تحديات اجتماعية واقتصادية وروحية بالغة الخطورة. إن الغرض الأساسي من صياغة النموذج الحضاري الجديد هو اكتشاف ما إذا كان تغير الوعي الكوني يمكن أن يؤدي إلى تأسيس نماذج جديدة للقيم واتجاهات مستحدثة للحياة؟ لقد أجاب أصحاب هذا النموذج من العلماء الاجتماعيين على هذا السؤال بـ"نعم" قاطعة. وإثباتاً لرأيهم بحثوا عدة مناطق تعبر كل منطقة منها عن موضوع محدد، طارحين أسئلة من أهمها سؤال رئيس هو: هل ستؤدي الثورة الكونية في الاتصالات إلى صياغة وعي كوني جديد؟ وسؤال آخر لا يقل أهمية: هل هناك نقلة جارية الآن تجاه قيم اجتماعية ما بعد حداثية (إنسانية وتقدمية) مثل التسامح واحترام كل الثقافات، ورفض الحرب والعنف والعدوان ضد الشعوب المحتلة؟ لقد تبين من البحث أن هناك بزوغاً لحضارة إنسانية جديدة وثقافة كونية آخذة في النمو على اتساع العالم. وهذه النقلة الكيفية أشبه بالنقلة من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي. وتكنولوجيا الاتصالات هي القوة الدافعة وراء بداية هذه الحقبة. وهذا التغير في الوعي الكوني له سمتان أساسيتان. فهناك أولاً يقظة في مجال قدرتنا الفريدة على التأمل الذاتي في أحوال العالم، بعيداً عن هيمنة وسائل الإعلام وتحيزاتها في نقل الأخبار وتحليلها. وهناك ثانيّاً اتجاه سائد في النظر إلى الأرض بل إلى الكون Cosmos باعتبارها أنساقاً حياتية متصلة ببعضها بعضاً اتصالاً وثيقاً، ولذلك يطلق أصحاب هذا النموذج على ذلك التغير في مجالات الثقافة والوعي "النموذج التأملي والأنساق الحياتية". وبعبارة أخرى أدت سرعة إيقاع الزمن في عصر العولمة، والتدفق الهائل للأحداث العالمية والمعلومات والأفكار، إلى ظهور الحاجة الشديدة إلى إرهاف القدرة التأملية للبشر في كل مكان، حتى يستوعبوا ما يحدث أمام أعينهم كل يوم على شاشات التلفزيون، التي أصبحت تنقل كافة الأحداث في زمن وقوعها الحقيقي Real Time. ولو تابعنا مسلسل الأحداث العالمية الكبرى التي وقعت بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي لوجدنا أن من أبرزها حرب البلقان وما دار فيها من تطهير عرقي وإبادة للشعوب، والعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، وحوادث الإرهاب ضد الولايات المتحدة في 11 سبتمبر والحرب الأميركية ضد أفغانستان، والغزو العسكري للعراق. وكل هذه أحداث بالغة الخطورة أيقظت بالأهوال التي وقعت فيها الوعي الإنساني، وشحذت القدرة التأملية والنقدية لدى البشر، وأصبحوا يميزون -على رغم اختلاف المستويات التعليمية- بين الحق والباطل، والظلم والعدل في مجال العلاقات الدولية، بل إنهم ببصيرة نفاذة اخترقوا حجب التعتيم الإعلامي على المذابح المروعة التي ارتكبها الجيش الأميركي في أفغانستان والعراق، وحرب الإبادة التي شنتها إسرائيل وما زالت تشنها ضد الشعب الفلسطيني، واستطاع الناس بفعل ثورة الاتصالات تكوين مصادر إعلامية مستقلة لهم لاكتشاف الحقيقة، عن طريق شبكة الإنترنت والرسائل البريدية والمناقشات المباشرة عبر وسائل الاتصال الحديثة. إن الوعي الكوني البازغ الذي يعبر عن ظهور حضارة إنسانية جديدة أصبح مفزعاً للنظم الشمولية والسلطوية، لأن ثورة الاتصالات قدمت للناس عموماً وللمناضلين وللناشطين سياسيّاً خصوصاً أدوات جديدة لا تستطيع الحكومات المستبدة أن تراقبها أو تسيطر عليها، مثل المدونات و"الفيس بوك" و"التويتر". وهكذا يمكن القول إن ظلمة الاستعمار والاحتلال وخرق حقوق الإنسان وجرائم الحرب، بدأت تنقشع في ضوء مؤشرات الوعي الكوني البازغ الذي بدأت مؤشراته في التبلور، سعياً وراء تحقيق تنمية مستديمة تحفظ حق الأجيال القادمة ولا تضحي بالأجيال الراهنة، وترنو إلى ممارسة حياة روحية طليقة تتجاوز التقاليد الدينية العتيقة التي لم تعد تشبع حاجات الإنسان المعنوية، وسعياً لخلق عالم متناغم بناء، على عقد اجتماعي جديد بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان والإنسان، شعاره لا حرب ولا عنف ولا استعمار ولا احتلال بعد الآن. وليس ذلك فقط، بل إن نزول من يؤمنون بقيم الحضارة الجديدة إلى الميدان للنضال المباشر ضد قوى البغي والعدوان كما فعل المتضامنون مع الشعب الفلسطيني، الذين ركبوا البحر على رغم الأخطار المتوقعة، يعد إعلاناً جهيراً أن الصمت لم يعد ممكناً والجهر بكلمة الحق أصبح مسؤولية كل إنسان على ظهر الأرض.