الزخم الذي أحدثته الجريمة الإسرائيلية بحق سفن "أسطول الحرية" ينبغي ألا ينتهي من دون استغلاله بالحد الأقصى الممكن، وعلى جبهات مختلفة. والاستغلال الأول الجدير بمضاعفة الجهد والعمل المتواصل الآن هو إنهاء الحصار المُنحط أخلاقيّاً وإنسانيّاً وسياسيّاً على مليون ونصف مليون في قطاع غزة. واستثمار ما يتجمع من مؤشرات إيجابية دوليّاً وإقليميّاً تنطلق من ضرورة إنهاء هذا الحصار، بعد أن تخطت نتائجه المأساوية كل القدرة الدولية على النفاق والتهرب من المسؤولية. والاستغلال الثاني الواجب فوراً، والذي يتيحه الزخم الراهن هو إنهاء الانقسام الفلسطيني وتحقيق المصالحة التي طال انتظارها. فكل المحاولات وجلسات الحوار والمبادرات والوساطات فشلت حتى الآن، ولأسباب مختلفة. ووقع ملف المصالحة أسيراً لـ"الورقة" التي عوض أن تكون وسيلة لتحقيق تلك المصالحة أصبحت عبئاً عليها وهدفاً في حد ذاتها، وتحولت من أداة لتسهيل الوحدة الفلسطينية إلى عقبة في وجهها، وانتهى الجميع وأولهم "فتح" و"حماس" إلى الطريق المسدود والمُدمر الذي نشهده جميعاً. كسر المأزق والطريق المسدود أمام المصالحة الفلسطينية يماثل كسر الحصار وإنهاءه. وكما احتاج كسر الحصار على غزة إلى خيال وعزم مبدع تمثل في "أسطول الحرية" والنشطاء الأحرار، فإن كسر مأزق المصالحة يحتاج أيضاً إلى خيال وعزم من نوع جديد. ويتمثل هذا في قيام الرئيس عباس بزيارة قطاع غزة ولقاء قيادة "حماس" وإسماعيل هنية هناك، اليوم قبل الغد. وإذا كان الحصار على قطاع غزة قد بدأ بالتهاوي فلنا أن نتخيل زعماء دوليين في طريقهم لزيارة غزة، وهو ما تشير إليه بعض الأخبار مثل عزم أردوغان القيام بمثل هذه الزيارة وتحدي الحصار وإسرائيل. ولن يكون من المعقول سياسيّاً ولا من المقبول وطنيّاً أن يبدأ سيل مثل هذه الزيارات فيما الرئيس الفلسطيني لا يكون أول الذاهبين إلى غزة. إن زيارة عباس إلى غزة ستنهي حالة التكلس والجمود في ملف المصالحة، وتدفع بها أشواطاً واسعة إلى الأمام. و"حماس" المنهكة في القطاع تريد هذه الزيارة، وفتح المنهكة في الضفة الغربية تريد هذه الزيارة، والوضع الفلسطيني المُنهك برمته في أمسِّ الحاجة إلى هذه الزيارة. والغطرسة الإسرائيلية المذهلة بقيادة نتنياهو تفترض حدوث هذه الزيارة في أسرع وقت ممكن، وتحقيق المصالحة. والموقف الأميركي المتردد، والمخزي مؤخراً تجاه الاعتداء على "أسطول الحرية"، يترك الفلسطينيين مرة أخرى وحيدين لمواجهة مصائر بالغة الصعوبة والتحدي تستلزم منهم التوافق على صيغة الحد الأدنى للمصالح الوطنية الفلسطينية. وليست ثمة سذاجة هنا تفترض أن مثل هذه الزيارة ستنهي الخلافات الفتحاوية- الحمساوية دفعة واحدة وبضربة سيف الإسكندر، فقد جرت مياه آسنة كثيرة في السنوات الأربع الماضية، وتخلقت بنيات هيكلية للانقسام، وتجذرت مصالح وسياسات على خلفيته. ولكن الشيء المؤكد هو أنها ستكسر الحلقة المفرغة وتعيد وضع سكة المصالحة على طريق الحوار الجدي والمباشر ومن دون وسطاء. وينبغي أن تُأخذ دعوات قادة "حماس" للرئيس عباس لزيارة القطاع على محمل الجد، سواء تلك الصادرة من غزة أو من دمشق. والمطلوب هنا ليس فقط القيام بالزيارة وحسب، بل وتكرارها وممارسة شؤون الرئاسة بالتناوب من رام الله وغزة. وقد وجه كاتب هذه السطور نفس هذه المُطالبة لعباس بعد الانقسام بفترة قصيرة، ووجهها أيضاً الدكتور صبري صيدم عضو المجلس الثوري لـ"فتح"، وكثيرون آخرون. ولتوكيد الوحدة العضوية الجغرافية والديموغرافية والسياسية لقطاع غزة والضفة الغربية يتعين على الرئاسة الفلسطينية أن تدير شؤونها من المنطقتين، حتى مع وجود الخلاف بين "فتح" و"حماس". وكما يوجد مقر للرئاسة الفلسطينية في "المقاطعة" في رام الله فإن مقرها وعنوانها في غزة هو "المُنتدى". وعندما يتواجد الرئيس الفلسطيني في مقره في غزة فإن الترجمة السياسية والرمزية لذلك التواجد تعني وحدة النظام السياسي الفلسطيني، وحشر الخلاف الفتحاوي- الحمساوي تحته، وليس فوقه أو خارجه. وأهمية دعوات "حماس" للرئيس الفلسطيني لزيارة غزة تكمن هنا بالضبط، أي في إقرارها بشرعية الرئاسة على رغم كل التصريحات الغاضبة هنا وهناك، وهي دعوات تفيد بأن الجميع قد أصابه الإنهاك ويريد للانقسام أن ينتهي. وعلى المدى القصير والمباشر يكون هدف الزيارة تحقيق اختراق حقيقي في ملف المصالحة وإعادة صياغة آلية وشكل الحوار كليّاً ليصبح حواراً مباشراً. وعندما يتم ذلك فإن الوقت الذي سنحتاجه للوصول إلى توافق وطني سيتم اختصاره بشكل كبير، والأهم من ذلك أن طبيعة وجوهر الاتفاق ستكون مبنية على أسس فلسطينية خالصة، ودرجة إلزاميته بالتالي قوية نافية للتعذر بأعذار الضغوط الخارجية لإجبار هذا الطرف أو ذاك للتوقيع عليه. ويمكن الاستعانة بفرق من الشخصيات الفلسطينية المُستقلة، التي يقبل بها الطرفان لتكون في موقع الوسيط أو المحكم في حال الاصطدام بعقبات في الحوار تتطلب تدخلا من طرف ثالث. والطريق بين الضفة الغربية وقطاع غزة هو أقصر بما لا يُقارن مع كل الطرق إلى كل العواصم، عربية كانت أم غير عربية. ولا يعني هذا التقليل من كل الجهود العربية أو غير العربية التي أرادت أن تنهي الانقسام الفلسطيني المُخجل وبذلت الكثير من أجل ذلك. ولكن مع الانسداد القائم ومرور سنوات عقيمة على الانقسام يصبح من اللازم تغيير الآلية كليّاً والنظر في أسلوب جديد. فعلى رغم عقم تلك السنوات إلا أنها أنتجت قناعات جديدة داخل "فتح" و"حماس" كلتيهما، أهمها هي استحالة شطب الطرف الآخر وحتمية التعاون معه. وقد تُرجمت تلك القناعات في التوافق على أغلب ما أوردته الورقة المصرية، وهو تقدم كبير ويجب أن يُشار إليه باهتمام. وهو توافق تعود أسسه أيضاً إلى وثيقة السجون واتفاق مكة المكرمة، ومجموع هذه كلها يشير إلى أن أشواطاً كبيرة ومهمة من التوافق قد قُطعت، وأننا لن نبدأ من الصفر. وعلى سبيل المثال، هنا في بريطانيا اتفق حزبا "المحافظين" و"الديمقراطيين الأحرار" على تشكيل حكومة ائتلافية، وهما يقفان أيديولوجيّاً على طرفي نقيض، ولا تجمعهما أية أرضية فكرية، أو "عدو مشترك". والبوصلة التي فرضت على الحزبين الانصياع لها هي ضرورة التسيس العقلاني لخدمة بريطانيا في وقت تواجه فيه معضلات اقتصادية جمة. وفي الحالة الفلسطينية هناك أرضيات موحدة واسعة، وأهم من كل شيء هناك عدو مشترك، وهدف موحد هو التخلص من الاحتلال. وما ينقصنا هو التسيس العقلاني وتقديم خدمة الهدف الوطني على خدمة الهدف الحزبي. ولذا فقد آن الأوان لمسار جديد، ولعله يبدأ بزيارة عباس إلى غزة.