أوهام الدبلوماسية النووية
في الأسابيع الأخيرة تردد اسم كل من إيران وإسرائيل كثيراً في الأنشطة الدبلوماسية المكثفة التي شهدتها واشنطن ونيويورك، حيث اختَتم مؤتمر عُقد لمراجعة معاهدة عدم الانتشار النووي أعماله بصدور إعلان التزمت بمقتضاه 189 دولة بالسعي إلى إزالة جميع الأسلحة النووية المنتشرة في العالم، واحترام كل دولة لواجباتها في هذا الاتجاه، ولكن كما هو عليه الحال في مثل هذه اللقاءات سيكون الالتزام لفظيّاً أكثر من كونه خطوات عملية وخريطة طريق حقيقية لتحقيق الهدف المعلن المتمثل في تخليص العالم من الأسلحة النووية. بل يمكن القول، أكثر من ذلك، إن الدول النووية نجحت مرة أخرى في رفض محاولات الدول غير النووية تحديد موعد زمني لبلوغ هدف نزع السلاح النووي، بشكل كامل. كما رفضت تماماً الإشارة إلى أي التزام قانوني تتعهد بموجبه الدول النووية بعدم استخدام تلك الأسلحة ضد دول لا تملكها ليبقى الإنجاز الوحيد الذي خرج به المؤتمر هو تحديد عام 2012 لعقد مؤتمر يناقش، لأول مرة، إمكانية جعل الشرق الأوسط منطقة خالية من الأسلحة النووية.
هذا بالإضافة إلى جديد آخر أتى به المؤتمر تمثل في توجيه دعوة إلى كل من إسرائيل وباكستان والهند للانضمام إلى معاهدة عدم الانتشار النووي، وهو احتمال غير متوقع حصوله ما دام انضمام تلك الدول إلى المعاهدة يعني تخليها عن أسلحتها النووية.
وفي المقابل تمكنت الدول النووية من تعزيز اللغة والترتيبات التي تفرض على نظيراتها غير النووية فتح برامجها أمام المراقبين الدوليين، والإشارة الواضحة إلى النتائج الوخيمة التي تنتظرها في حال أخلّت بالتزاماتها تلك، وهو تطور من المرجح أن يؤثر على الطريق المسدود الذي وصلته، مثلاً، العلاقة بين إيران والغرب حول برنامجها النووي المثير للجدل.
وباختصار إذا كان هذا هو كل ما استطاعت معاهدة عدم الانتشار النووي تحقيقه على مدى أربعين عاماً من سريانها فإنه يمكن القول إن أحلام نزع السلاح النووي من العالم، فضلا عن إخلاء منطقة الشرق الأوسط منه، وهو الهدف الجديد المعلن، ستظل مجرد أحلام أو بالأحرى أوهام بعيدة عن أرض الواقع.
وبالموازاة مع المراجعة التي شهدتها المعاهدة في نيويورك كانت تجري مفاوضات أخرى على نار هادئة لكنها تنبئ بتغير ملحوظ في ميزان القوى الدبلوماسية السائد منذ عام 1945، حيث كانت قوتان صاعدتان، هما البرازيل وتركيا، تتفاوضان بنجاح من أجل التوصل إلى تسوية تنهي الأزمة المندلعة بين الغرب وإيران على خلفية برنامجها النووي.
والحقيقة أن الاتفاق الذي تم التوصل إليه هو نسخة جديدة من مقترح سابق طرحه الغرب في السنة الماضية دون أن يعرف طريقه إلى التنفيذ، وبموجب هذا الاتفاق، الذي رعته البرازيل وتركيا، وافقت إيران على إرسال مخزونها من اليورانيوم منخفض التخصيب إلى تركيا مقابل الحصول على اليورانيوم عالي التخصيب لأغراض طبية. وبالإضافة إلى ذلك يعترف الاتفاق الجديد بحق إيران في تخصيب اليورانيوم على أن تفتح هذه الأخيرة منشآتها للتفتيش الدولي وخضوع برنامجها النووي للمراقبة الدولية، ولكن أهم ما جاء به الاتفاق هو إثبات القدرة على حل القضايا الشائكة بعيداً عن تدخل واشنطن والغرب. ولذا يحق لنا التساؤل عن ردة الفعل الرافضة التي تبنتها إدارة أوباما إزاء الاتفاق في وقت كان أوباما قد عبر فيه عن رغبته في حل الملف النووي الإيراني بالطرق الدبلوماسية؟ وليس خلواً من المعنى، مباشرة، بعد الإعلان عن الاتفاق تأكيد هيلاري كلينتون أن بلادها ستضغط في اتجاه فرض العقوبات على طهران، معتبرة الجهد الذي أفضى إلى الاتفاق غير كافٍ وأنه لا يستجيب للمطالب الدولية!
ومن غير المستبعد أن يكون هذا الموقف المتشدد الذي عبرت عنه واشنطن ناتجاً عن ضغوط إسرائيلية تذكرنا بالحملة الإعلامية التي شنت قبيل الحرب على العراق لتهيئة الرأي العام الغربي لحرب قادمة. بل إنه يمكن العثور على نقاط تشابه مثيرة بين التغطية الإعلامية الحالية للاتفاق وما جاء فيه من حلول وبين طريقة التعاطي الإعلامي في الغرب عشية الحرب على العراق من خلال الترويج لمعلومات مغلوطة عن امتلاك صدام لأسلحة الدمار الشامل. فقد انخرطت صحيفتا "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز" الآن أيضاً في عملية تبخيس مكشوفة لقيمة الاتفاق الثلاثي بين تركيا والبرازيل وإيران، وفي البحث عن ثغراته، مع الحرص على تصويره على أنه مجرد لعبة إيرانية انطلت على البرازيل وتركيا. وفي هذا الإطار كتبت "نيويورك تايمز" في إحدى افتتاحيتها مقللة من أهمية الاتفاق "نفهم رغبة تركيا والبرازيل في تجنب الصراع، ولكن يبدو أنهما، على غرار العديد من الدول، خدعتا من قبل إيران". وفي هذه الأثناء كانت الترسانة النووية الإسرائيلية تتعرض للكشف من خلال ما نقلته صحيفة "ذي جارديان" البريطانية من وجود علاقات سرية بين نظام الفصل العنصري السابق في جنوب أفريقيا وإسرائيل عرضت من خلالها هذه الأخيرة حينها بيع صواريخ مزودة برؤوس نووية إلى نظام الأبارتايد.
وأخيراً وبعد كل الجهد الذي بذل في نيويورك لمراجعة معاهدة الانتشار النووي ظلت الشكاوى من المعايير المزدوجة التي توجه إلى الغرب مبررة فعلاً وصحيحة، بين إسرائيل التي تملك السلاح النووي وترفض التوقيع على المعاهدة، وبين دول أخرى موقعة عليها. وما لم يستطع المجتمع الدولي معالجة هذا الاختلال الجسيم في المعايير المطبقة في المسائل النووية ستفقد طبعاً مساعي عدم الانتشار النووي مصداقيتها تماماً، وستبقى محط اتهام وشك في نظر العديد من الشعوب والدول النامية.