في رأيي، يمثل القرار الذي اتخذه الاتحاد الأوروبي بإنقاذ اليونان، وإنشاء شبكة أمان مالي هائلة تغطي دائنيها الآخرين المعرضين لنفس المصير، حدثاً مشهوداً - حتى وإن كان نجاحه غير مضمون تماماً. وعلى النقيض من الاعتقاد السائد، فإن الغرض من ذلك القرار لم يكن إنقاذ اليونان، وإنما الحيلولة دون وقوع حالة أخرى من الهلع المالي، على غرار تلك التي رافقت سقوط مجموعة"ليمان براذرز" المصرفية في أواخر عام 2008 ، وهو هلع يمكن أن يدفع بالاقتصاد العالمي مرة أخرى إلى هاوية الركود. وتراجع أسعار الأسهم والسندات، وهبوط قيمة "اليورو" مقابل الدولار، تمثل في نظري مؤشرات إنذار لا يمكن تجاهلها. لكن كيف يمكن لاقتصاد دولة صغيرة مثل اليونان، لا يزيد تعداد سكانها عن 11 مليون نسمة، ويبلغ حجم اقتصادها بالكاد واحداً على أربعة عشر من حجم الاقتصاد الأميركي، أن تكون سبباً في إطلاق هذه السلسلة من ردود الفعل؟ الإجابة بسيطة، فإذا افترضنا جدلاً أن اليونان قد عجزت عن سداد قيمة السندات الحكومية عند مطالبة الحاملين لتلك السندات باسترداد قيمتها نقداً، فإن ما ينتظر أن يحدث هو حالة من الهروب الجماعي من الاستثمار في السندات الحكومية لإسبانيا، والبرتغال، وغيرهما من الدول الأوروبية التي تعاني عجزاً كبيراً في الميزانية، أو من ديون ضخمة، والتي يمكن أن تتعرض لنفس ما تعرضت له اليونان. ومن المعروف أن إجمالي موجودات البنوك الأوروبية الكبرى من السندات اليونانية والبرتغالية والأيرلندية والإسبانية يبلغ 250 مليار دولار حسب تقديرات "معهد المالية الدولية"، وهو مجموعة بحثية صناعية. ومع تفاقم الخسائر، فإن البنوك ستعاني من عدم القدرة على جمع الأموال اللازمة لممارسة أنشطتها الروتينية، كما أن قيمة أسهمها وسنداتها ستهبط أيضاً في مثل هذه الحالة.وإذا بدأت أسواق الأسهم والسندات في بيعها بشكل كثيف، فلا أحد يعرف ما الذي يمكن أن يحدث. لأن الهلع كما هو معروف يتغذى على القلق والجهل، فبعد إخفاق مجموعة "ليمان براذرز" على سبيل المثال ، تركها المستثمرون واتجهوا إلى الأمان الذي توفره النقود، وسندات الخزينة الأميركية، مما أدى إلى هبوط الأسواق هبوطاً كبيراً، وانخفاض معدلات الإقراض، وتراجع التفاؤل، وتدهور الاقتصاد. ومصلحة أميركا في الوقت الراهن تكمن في العمل من أجل عدم تكرار ذلك. وعلينا في هذا الشأن العمل على دعم حزمة الإنقاذ الأوروبية، لأن مشكلات أوروبا لا تقتصر عليها وحدها، فالأسواق عالمية كما هو معروف. القروض التي منحتها البنوك الأميركية لأوروبا عام 2009 قد بلغت 1.5 تريليون دولار، كما أن أوروبا، فضلاً عن ذلك، تشترى ربع الصادرات الأميركية تقريباً. وهذا الدرس المهم يبدو وكأنه قد غاب عن أذهان أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، الذي صوت منذ عدة أيام فقط( 94 مقابل صفر) في بادرة رمزية لحد كبير، على الحد من المساهمة الأميركية -من خلال صندوق النقد الدولي - في إنقاذ أوروبا. قد يكون ذلك شيئاً مقبولاً من الناحية السياسية البحتة، على أساس أنه يغازل العداء الشعبوي الأميركي نحو"حزم الإنقاذ"، ولكن المواقف المفرطة في التركيز على المشاعر القومية، يمكن أن تهز الثقة، وترتد بالضرر على الجميع دون استثناء. وحزمة الإنقاذ الأوروبية تتكون من ثلاثة أجزاء: الأول: أنها تقدم قرضاً بقيمة 110 ملايين يورو لليونان لتمكينها من سداد السندات التي حان أجل استحقاقها ولتجنيبها - مؤقتاً- الحاجة إلى الاقتراض من الأسواق الخاصة. الثاني: اشتراك الحكومات الأوروبية مع صندوق النقد الدولي في إنشاء شبكة أمان مالي بقيمة 750مليار يورو بغرض حماية المدينين الآخرين المعرضين لنفس مصير اليونان وبالذات البرتغال، وأيرلندا. الثالث: تعهد البنك المركزي الأوروبي -المعادل للاحتياطي الفيدرالي - بشراء كميات غير محددة من سندات المدينين "الأضعف" علاوة على القيام بإنشاء شبكة أمان مالي أخرى والعمل على المحافظة على أسعار الفائدة عند مستويات منخفضة. كل ذلك يرقى لمستوى"صفقة كبرى" على حد تعبير "جاكوب كيرجارد" أستاذ الاقتصاد في "معهد بيترسون"، وهي صفقة تحصل بموجبها الدول المدينة على قروض مؤقتة، وعلى دعم من البنك المركزي الأوروبي في مقابل العمل على خفض عجز الموازنة لديها بدرجة تكفي لاسترداد ثقة الدائنين. ومن المعروف أن اليونان، كي تتأهل للحصول على القروض، تعهدت بإجراء تخفيضات في الإنفاق وزيادات في الضرائب بما يعادل 15 في المئة من حجم اقتصادها الكلي خلال الأعوام الأربعة القادمة. كما أن إسبانيا أعلنت عن تخفيض الرواتب الحكومية بنسبة خمسة في المئة، وتعليق أي زيادات على المنافع التي يحصل عليها كبار السن وإجراءات أخرى، كما أعلنت البرتغال عن تخفيضات في العجز أيضاً. الكثير من تلك السياسات قد يتعرض للإخفاق، بل إن "كيرجارد" وغيره من خبراء الميزانيات يعتقدون أن اليونان سوف تخفق في نهاية المطاف في سداد الديون المترتبة عليها، وهو ما يرجع لعدد من الأسباب منها أن عدد دائنيها كبير للغاية مقارنة بحجم اقتصادها الصغير. وحزمة الإنقاذ الأوروبية، في أفضل الظروف، قد تساعد على شراء الوقت وعلى نزع فتيل أزمة أكبر من الأزمة الحالية. وهذه الأزمة" الأكبر"، حسبما يرى" إيان ليسر" من صندوق مارشال الألماني تتمثل في " تهديد النموذج الأوروبي الاقتصادي والسياسي، والذي يتضمن فيما يفترض التضامن بين الشمال والجنوب". إن الهبوط المنتظم لليورو في الأسواق المالية الأوروبية، يؤشر على وجود الكثير من الشك في قدرة أوروبا على كسب رهانها. وحتى لو فعلت ذلك، فإن تخفيضات الإنفاق، وزيادات الضرائب سوف تحد من النمو الاقتصادي المنخفض أصلا، وهو ما يعني أن إسهام أوروبا في التعافي العالمي سوف يكون هزيلًا. أوروبا تحاول في الوقت الراهن جاهدة أن تنجح في رهانها على الرغم من الظروف المناوئة، ويجب علينا نحن في أميركا ألا نعمل على جعل تلك المحاولة أكثر صعوبة. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"