يتفق الجميع على ما يبدو على أن أميركا ليست على ما يرام هذه الأيام. فالانتخابات الأخيرة فسرها الكثيرون باعتبارها دليلاً إضافيّاً على غضب الجمهور؛ وأغلبيات كبيرة من الأميركيين ما زالت تعتقد أننا نسير في "المسار الخطأ"؛ والمعلقون ومديرو الشركات يعبِّرون بالإجماع تقريباً عن قلقهم بشأن العجز والديون. وهكذا، فإن التشبيهات والمقارنات بين أميركا واليونان ما فتئت تكثر وتتزايد. وفي هذه الأثناء، تصعد إلى الواجهة أدلة على أن الولايات المتحدة قد خرجت من الأزمة الاقتصادية لـ2008 في حالة أفضل مما كان يتوقعه كثيرون قبل 18 شهرا. فالاقتصاد يفاجئ معظم المتنبئين بالنمو الشامل لكل القطاعات، الذي يقود القطاعُ الخاص جزءاً كبيراً منه الآن؛ حيث وظفت الشركات خلال الأشهر الأربعة الأولى من هذا العام نصف مليون شخص؛ كما ارتفعت الصادرات بـ20 في المئة مقارنة مع الفترة نفسها من العام الماضي (وارتفعت الصادرات إلى الصين خاصة بـ50 في المئة). وعلاوة على ذلك، فالتوقعات الغالبة هي أن النمو سيرتفع هذا العام إلى 3.5 في المئة، في وقت يعتقد فيه العديد من الخبراء الاقتصاديين أنه يمكن أن يرتفع إلى أكثر من ذلك. كما بدأت الشركات عبر البلاد تعلن عن نتائج أقوى مما كان متوقعاً بالنسبة للربع الأول من هذا العام. إن التراجع الذي عرفته مؤخراً معظم البورصات هو نتيجة للقلق والتوتر بشأن الإنقاذ المالي لليونان ومستقبل أوروبا، وهذا أمر مبرر تماماً على اعتبار أنه لا أحد يعرف كيف ستنتهي الأزمة، ولا إلى أي حد ستكون عواقبها موجعة مع مرور الوقت. ولكن النتيجة، على المدى القصير على الأقل، تقوي موقف الولايات المتحدة. فصورة أوروبا المترددة، والمنقسمة على نفسها، تتباين مع صورة أميركا التي تحركت بسرعة وعلى نحو شامل وفعال وسخرت موارد كبيرة؛ فنجح رد واشنطن في مواجهة الأزمة، في حين لم ينجح رد أوروبا حتى الآن. وعلاوة على ذلك،أن الأموال التي طالما استُثمرت في أوروبا تتدفق اليوم على أميركا، في ما يبدو "فراراً (مؤقتاً) إلى الأمان". غير أن ثمة تداعيات على المدى الطويل. فالكلام الفضفاض حول حلول "اليورو" محل الدولار كعملة احتياط عالمية قد انتهى، حيث أظهرت الأحداث الأخيرة بجلاء أن "اليورو" -البديل الوحيد المحتمل للدولار على المدى المتوسط- يتخبط في عيوب بنيوية ولا يمكن المراهنة عليه. ولعل التأثير الأهم للأزمة اليونانية ربما يكون الحفاظ على الدور الاحتياطي للدولار على مدى جيل آخر -وهو دور يجلب معه فوائد جمة للولايات المتحدة، دون شك. صحيح أن عجز الحكومة الأميركية بات نقطة حوار دائمة ومركزية داخل الدوائر السياسية؛ ولكن هذه المشكلة كثيراً ما تُطرح على نحو مبالغ فيه على المدى القصير، لأننا لسنا مثل اليونان. ذلك أن عجز اليونان يشكل 12 في المئة من الناتج الداخلي الخام للبلاد، في وقت لا يوجد فيه أي احتمال لحدوث نمو اقتصادي يقلص ذلك العجز خلال السنوات القليلة المقبلة؛ أما عجز الميزانية الأميركية، فيشكل 10 في المئة من الناتج الداخلي الخام للبلاد؛ ولكن باستخدام الافتراضات المعقولة التي قام بها "آلان أورباك" و"ويليام جيل" لحساب "مؤسسة بروكينجز"، فإن من المرتقب أن ينخفض العجز إلى أقل من 5 في المئة في غضون أربع سنوات (بل إن مكتب الميزانية التابع للكونجرس يشير إلى أن العجز سينخفض إلى أقل من ذلك). وإضافة إلى هذا، أن الدَّين اليوناني كنسبة مئوية من الناتج الداخلي الخام يشكل حوالي 115 في المئة، في حين يشكل الدين الأميركي حوالي 60 في المئة من الناتج الداخلي الخام. وربما يكمن الفرق الأكبر في حقيقة أن احتمالات تحقيق الولايات المتحدة للنمو كبيرة، بالنظر إلى الاقتصاد والإنتاجية التكنولوجية والديمغرافية؛ وربما يكون ذلك هو السبب الذي يجعل مشكلة الولايات المتحدة في تمويل دَينها تبدو بسيطة وصغيرة نسبيّاً. ثم إن الطلب على سندات الخزينة الأميركية مازال قويّاً، حيث زادت حكومات أجنبية، مثل الصين، عمليات الشراء مؤخراً. والحقيقة هي أنه إذا كنتَ بنكاً مركزيّاً أجنبيّاً وترغب في استثمار مبالغ كبيرة من المال -عشرات المليارات- وتحتاج لاستثمار آمن بشكل معقول و"سائل" (أي يمكنك أن تبيعه كله بسرعة)، فليس ثمة ما هو أفضل أمامك الآن من سندات الحكومة الأميركية. واللافت في هذا الصدد أن أميركا تنفق اليوم على خدمة دَينها أقل، كنسبة من الناتج الداخلي الخام، مقارنة مع 1999 عندما كانت إدارة كلينتون تعلن فائض الميزانية (والسبب بالطبع هو أن معدلات الفائدة أكثر انخفاضاً بكثير مما كانت عليه في 1999). بيد أن كل هذه الأخبار السارة يمكن أن تتحول أيضاً إلى أخبار سيئة بسرعة، وذلك لأن الظروف الجيدة الحالية تعتبر ظواهر قصيرة الأمد؛ وعلى المدى الطويل، ستدمر تكاليفُ الرعاية الصحية الميزانيةَ الفيدرالية، ومعها الاقتصاد الأميركي. ومما لاشك فيه أن معدلات الفائدة سترتفع، ما سيؤدي إلى ارتفاع تكاليف خدمة الدَّين. وعلاوة على ذلك، فإن منافسين جدداً يظهرون كل سنة في كل قطاع، في بلدان أخرى، ويعملون بجد ليكونوا جذابين للأعمال والاستثمارات. لقد تحالفت الظروف لتمنح أميركا مجالا للتنفس؛ وعلى الزعماء في واشنطن أن يغتنموا الجو الحالي باعتباره هدية من السماء ويستغلوه لإعادة تزويد الاقتصاد الأميركي بأدوات جديدة. ثم إن الجميع يعرف ما ينبغي فعله: إعادة هيكلة الاستحقاقات (مثل المعاشات في الولايات، التي تعد الكارثة المقبلة)، وخفض تكاليف الرعاية الصحية، وإصلاح الهجرة والضرائب والقوانين -وبالتالي، استعادة القوة التنافسية للبلاد. أما الخيار الآخر، فهو أن يؤجل زعماؤنا كل القرارات الصعبة إلى أن تصبح أميركا أخيراً مثل اليونان فعلاً. ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"