قد يكون ما نراه الآن من تشنجات ومعاناة في اليونان بداية دورة موت فعلية لما كان يسمى دولة الرفاه. ولا يصدق هذا على اليونان فقط، وهي التي سببت الأزمة الطاحنة التي تعرضت لها، إرباكاً كبيراً في أسواق الأوراق المالية، وهددت التعافي الاقتصادي، وإنما يمكن القول، دون افتئات كبير، إن كل دولة من الدول المتقدمة تقريباً، بما في ذلك الولايات المتحدة، باتت معرضة اليوم للمصير نفسه. فالسكان المسنون في تلك الدول، وعِدوا بمزايا صحية وتقاعدية هائلة، لم تقم الدول المعنية بتغطيتها من خلال الضرائب (أي لم تفرض الضرائب الكافية التي تمكنها من الحصول على الأموال اللازمة لتوفير تلك المزايا والمنافع للمسنين). وفي الوقت الراهن، حلت لحظة الحساب بالنسبة لليونان، بشكل واضح، ولكن هذه اللحظة نفسها، في الحقيقة، تنتظر معظم المجتمعات الغنية الغربية الأخرى. ومعروف أن الأميركيين بشكل عام لا يحبون مصطلح "دولة الرفاه"، ويفضلون بدلاً منه استخدام كلمة مخففة هي "الالتزامات"، أي المنافع والمزايا التي تلتزم الدولة بتوفيرها لسكانها. ولكن تغيير الكلمات وحده لا يؤدي إلى تغيير الحقائق. فالدول لا تستطيع أن تفرط في الإنفاق، وتفرط في الاقتراض إلى ما لا نهاية، كما أن تأجيل اتخاذ القرارات الصعبة بشأن الإنفاق والضرائب يعرض الحكومات لاحتمال أن تجد نفسها في نهاية المطاف في طريق مسدود. والحال أن أزمة "اليورو" بدأت في الحقيقة في عام 2002، حيث كان من الواضح منذ البداية أن تلك العملة لم تكن على مستوى الآمال التي علقت عليها، وعلى رأسها أنها ستساعد على "تزييت" عجلة النمو الاقتصادي في أوروبا، من خلال تقليص التكاليف والارتباك اللذين تتضمنهما عملية التحويلات الدائمة بين العملات الوطنية لكل دولة من الدول المعنية، وقصر التعامل على عملة واحدة. وكان لإطلاق "اليورو" هدف آخر أهم وهو تحقيق الوحدة السياسية بين الدول الأوروبية، على أساس أن شعوب الدول التي ستستخدم عملة مشتركة ستحس بشكل أقوى بأنها "أوروبية"، وهو إحساس سيترسخ تدريجيّاً بعد ذلك، عندما تذوب الهويات الوطنية في هوية قارية أوروبية مشتركة. ولكن لم يتحقق شيء من هذا: فمعدل النمو الاقتصادي للدول التي تستخدم تلك العملة لم يزد على 2.1 في المئة في المتوسط، واستمر كذلك خلال الفترة ما بين 1992- 2001 ثم تقلص إلى 1.7 في المئة، خلال الفترة ما بين 2002- 2008. وفي رأيي أن تعدد العملات لم يكن أبداً عقبة أمام النمو الاقتصادي، وإنما الذي يرسخ مثل تلك العقبة هو الضرائب المرتفعة، واللوائح التنظيمية المبالغ فيها، والدعم السخي للكثير من السلع والبضائع والخدمات. أما بالنسبة للوحدة السياسية، فقد اتضح الآن بجلاء أن "اليورو"، يمزق هذه الوحدة بدلاً من أن يعززها. فاليونانيون يتظاهرون الآن في الشوارع احتجاجاً على الشروط المجحفة التي تريد الدول التي تقدم لبلادهم حزمة الإنقاذ فرضها عليها. وتلك الدول التي ساهمت في توفير الحزمة الباهظة التي تبلغ قيمتها 145 مليار دولار، تتذمر هي أيضاً من جانبها من التكلفة الباهظة التي ستتحملها من أجل إنقاذ اليونانيين المسرفين. وقد ثبت من خلال التجربة أن العملة الموحدة لم تكن قادرة على إذابة الهويات الوطنية تماماً مثلما أن شراب الكوكاكولا لا يؤدي إلى جعل الناس أميركيين. ولو عانت دول "اليورو" الأخرى مثل البرتغال وإسبانيا وإيطاليا من المصير نفسه الذي تعاني منه اليونان، أي تفقد ثقة الأسواق، والقدرة على اقتراض أموال بفوائد معقولة، فستكون هناك أزمة أوسع نطاقاً. ولكن المشكلة في الحقيقة لا تتمثل في "اليورو" فحسب، وإنما تتمثل في نظري في عجز الميزانية، وحجم الدين. وهاتان الظاهرتان تترتبان في الأصل على المنافع والمزايا باهظة التكلفة التي توفرها دولة الرفاه الحديثة (إعانة البطالة، إعانات الشيخوخة، والتأمين الصحي). وهناك دول في مناطق أخرى، عانت عجز الميزانية الذي فاقم منه الركود الناشئ عن الأزمة المالية التي ضربت العالم. والفارق بين اليونان وبين تلك الدول هو فارق في الدرجة فحسب، حيث وصل ذلك العجز وحجم الدَّين في حالة اليونان إلى مستويات قياسية (في عام 2009 بلغ عجز الميزانية 13.6 في المئة من الناتج القومي الإجمالي لليونان، وبلغ حجم الدَّين 115 في المئة من ذلك الناتج ). وتصل دول الرفاه إلى دورة الموت عندما يهدد أي إجراء تقريباً تتخذه الحكومة، بشأن بميزانياتها، بجعل الأمور أكثر سوءاً من ذي قبل، سواء من خلال إبطاء حركة النمو الاقتصادي، أو التسبب في حدوث ركود عميق. وإذا ما سمحت تلك الدول للعجوزات بالتفاقم، والوصول إلى مستويات قياسية، فإنها تغامر في هذه الحالة بتعريض نفسها لأزمة مالية؛ لأن المستثمرين سيشكون في يوم ما -لا يعرف أحد متى يكون- في قدرة تلك الحكومات على خدمة ديونها، وبالتالي سيرفضون -كما حدث مع اليونان- إقراضها إلا بأسعار فائدة باهظة جداً. أما إذا لجأت تلك الحكومات إلى تخفيض منافع دولة الرفاه، أو حتى زيادة الضرائب، فإن مثل تلك الإجراءات تؤدي عادة -حتى لو كان ذلك مؤقتاً- إلى إضعاف الاقتصاد. بل على عكس المتوقع منها، يمكن أن تؤدي إلى جعل عملية تمويل بقية المنافع التي تقدمها دولة الرفاه أكثر صعوبة. ولو أن عدداً قليلاً من الدول واجه مثل تلك المشكلات لكان الحل سهلاً. فالدول سيئة الحظ التي كانت ستصاب بأزمة مماثلة، يتوقع أن تلجأ إلى تخفيض الميزانيات، واستئناف النمو الاقتصادي من خلال زيادة التصدير للدول الأكثر ثراء. والأمر بالطبع يختلف مع الدول المتقدمة؛ لأن اقتصادات هذه الدول تمثل نصف اقتصادات العالم من حيث الحجم، ومعظمها في الأصل دول رفاه مثقلة بالتزامات تقديم الكثير من المنافع للسكان. وهذه الدول يمكن أن تخفف من وطأة المخاطر من خلال المبادرة، على نحو متدرج، بالحد من المنافع التي ألزمت نفسها بتقديمها، وبطريقة تدعو إلى بعث الطمأنينة في الأسواق المالية. وفي الممارسة الفعلية لم تقم تلك الدول بذلك، وهو ما يتضح على سبيل المثال من أن برنامجاً مثل برنامج الرعاية الصحية الذي قدمه أوباما قد وسع من نطاق تلك المنافع والخدمات بدلاً من أن يقلصها. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما الذي يمكن أن يحدث إذا ما وجدت مثل تلك الدول نفسها واقعة في محنة مثل تلك التي تعاني منها اليونان في الوقت الراهن؟ من الإجابات التي يمكن تقديمها عن هذا السؤال: سيحدث انهيار اقتصادي عالمي جديد بالطبع. وهذه الإجابة في حد ذاتها تفسر لنا لماذا سيكون التلكؤ في الخروج من الأزمة الحالية أمراً بالغ الخطورة. روبرت صامويلسون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة واشنطن بوست