أعلنت"كاتربلر" ... الشركة العملاقة المتخصصة في تصنيع الآليات الثقيلة مثل آلات حفر وتسوية التربة، والبلدوزرات، والشاحنات الكبيرة الحجم المستخدمة في المناجم، عن تحقيقها لأرباح بنسبة 36 في المئة للسهم الواحد في الربع الأول من العام الجاري، صعوداً من خسارة بنسبة 19 في المـئة للسهم في العام الماضي فحسب. الأكثر أهمية من ذلك، أن هذا التحسن قد نبع إلى حد كبير من تزايد طلب الدول الأجنبية على الآليات التي تنتجها الشركة. ونظراً لزيادة صادراتها من تلك الآليات، فإن "كاتربلر"، بدأت في تعيين موظفين جدد مرة أخرى. وعلى الرغم من أن الزيادة في عدد موظفيها في الولايات المتحدة لم تزد عن 600 شخص، فإن هذا يعد مؤشراً جيداً في حد ذاته، خصوصاً إذا عرفنا أن عدد من تم إعفاؤهم من العمل خلال فترة الركود قد وصل إلى 10 آلاف موظف وعامل منذ أواخر عام 2008، وهو ما أدى في ذلك الوقت إلى تقليص إجمالي عدد قوة العمل التابعة للشركة في الولايات المتحدة بحيث لم يتجاوز 43 ألف عامل. المهم في هذا السياق أن ذلك يؤشر على حدوث ذلك النوع من إعادة التوازن في الاقتصاد العالمي، الذي كانت الحاجة قد اشتدت إليه. فالعالم يحتاج إلى قاطرة جديدة للنمو، للحلول محل المستهلكين الأميركيين الذين ينفقون دون حساب، والذين كانوا يتميزون بشهوة لا تشبع لصادرات الدول الأخرى. ومحنة اليونان، ومشكلات الديون الأوسع نطاقاً لأوروبا، تعد نذيراً في هذا السياق يقول إن الدول المتقدمة لم يعد بإمكانها أن تشق طريقها إلى الرخاء من خلال الاقتراض الزائد. من هنا، تأتي أهمية إعادة التوازن: فالدول النامية، خصوصاً في آسيا، التي اعتمدت في نموها على زيادة صادراتها من السلع المختلفة، ستحول إلى الإنفاق المحلي. ويمكن القول إن الجميع في الصين على وجه التقريب، يؤيدون إعادة الموازنة من حيث المبدأ، لكن السؤال هنا: هل يمكن لذلك الأمر أن يحدث؟ يمكن القول - بناء على عدد من المقاييس -إنه قد بدأ بالفعل، فالصين والهند والبرازيل والعديد من دول الأسواق الصاعدة، نجحت في الهروب من أخطر تداعيات الركود الاقتصادي الكبير. فاقتصادات هذه الدول تنمو بسرعة أكبر بكثير من السرعة التي تنمو بها اقتصاداتنا (6.4 في المئة سنوياً خلال العامين 2010، و 2011 مقارنة بـ 2.9 للولايات المتحدة حسب تقديرات صندوق النقد الدولي). وهذه النسبة من النمو كانت لا بد وأن تؤدي إلى زيادة طلب تلك الدول على الآلات والمعدات المتطورة والإمدادات الصناعية الأساسية (الكيماويات والفحم)، التي تمثل ثلثي الصادرات الأميركية. إذن يمكن القول إن الإنفاق المحلي يتزايد على نحو مطرد في الأسواق الصاعدة، شأنه في ذلك تماما شأن المداخيل النقدية، والرغبة في شراء السيارات والملابس وأجهزة الكمبيوتر والهواتف النقالة الخلوية. ففي عام 2002 كان الإنفاق الاستهلاكي لتلك الدول يمثل 23 في المئة من الإجمالي العالمي في حين كان نصيب الولايات المتحدة 36 في المئة منه، كما يقدر الاقتصاديان "ديفيد هينزلي وجوزيف لابتون" العاملان في مؤسسة "جي. بي مورجان شيس". وبحلول عام 2008، وصلت هذه النسبة في الدول الصاعدة 32 في المئة بينما ظلت في الولايات المتحدة عند مستوى 28 في المئة. وهذا في الحقيقة يمثل تطوراً اقتصادياً كلاسيكياً، حيث تسعى الدول الفقيرة إلى تبني سياسات واستخدام تقنيات ومنتجات الدول الغنية. والموضوع في جوهره يأخذ شكل عملية مكونة من خطوتين كما يقول الاقتصادي "أرفند سابرامانيان"، الأستاذ بمعهد بيترسون. الخطوة الأولى هي: عبور العتبة الهوبزية(نسبة للفيلسوف توماس هوبز 1588-1679)، الـذي أعلن أن الحياة من دون حكومة قوية ستكون حياة "قذرة، ووحشية وقصيرة"، وأن الحكومات يجب أن تعمل على توفير الخدمات الأساسية مثل الأمن والصرف الصحي، وتحقق قدراً من حكم القانون وتؤسس نظاماً لحماية الملكيات. الخطوة الثانية هي: السماح للأسواق بالعمل، وممارسة الفضائل الاقتصادية المعتادة (ترويض التضخم، وتنظيم وضبط الميزانيات الحكومية). المشكلة أن أجزاء من أفريقيا وأميركا اللاتينية، لم تعبر العتبة الهوبزية بعد كما يقول" سابرامانيان" - ولكن في إجزاء أخرى من العالم نجحت دول بالفعل في حصد ثمار التحرك نحو الخطوة الثانية، من أبرزها الصين والهند اللتان لم تقوما بتخفيف القيود واللوائح الحكومية على الملكية، وعلى التجارة، وتأسيس سياسات اقتصادية قائمة على السوق، إلا في العقود الأخيرة فقط. هل معنى ذلك أن عملية إعادة التوازن للاقتصاد العالمي تمضي حسب المخطط المحدد لها؟ حسناً، ليس بالضرورة. صحيح أن عدم التوازن التجاري الضخم قد هبط بشكل حاد، إلا أن وجوده في حد ذاته يعكس حالة ركود، جعلت الناس والشركات يتوقفون عن الشراء والإنفاق، وهو ما أدى بدوره إلى انكماش التجارية العالمية على نحو حاد، ومعها حجم عدم التوازن. ولكن بما أن التعافي الاقتصادي، قد تعزز فإن العجز في الميزان التجاري وغيره من الموازين يرتفع الآن أيضاً. لكن الشيء المفقود في هذه الأجندة هو إعادة تقويم العملة الصينية "الرينمينبي"، الذي يعتقد بعض الاقتصاديين أنه مقيّم بأقل من سعره الحقيقي أمام الدولار بنسبة 40 في المئة على الأقل، وهو ما يعطي الصادرات الصينية ميزة تنافسية هائلة، ويفسر الفائض التجاري الضخم الذي تحققه. ويشار إلى أن الصين قد عارضت بعناد أجراء أي تغيير كبير في العملة، ولكنها مطالبة الآن بتغيير هذا الموقف خصوصاً أن العالم يقف الآن أمام مفترق طرق مصيري. والسؤال: هل ستتمكن الأمم المختلفة من إنجاز هذا التحول، حتى وإنْ بطريقة عشوائية وغير منظمة، أم أن رغبة كل دولة في زيادة إنتاجها ومستوى التشغيل فيها إلى أقصى حد ممكن ستطلق سياسات حمائية وقومية محكوم عليها بالفشل سلفاً؟ ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"