معلوم أن نظريات ابن خلدون التي عرضها في مقدمته الشهيرة تتركز، كما أكد هو نفسه، على أسباب قيام الدول وسقوطها وما يحدث فيها من العمران؛ ومعلوم كذلك أن آراءه في هذا الموضوع قد استخلصها أساساً من استنطاق تجربته السياسية في أقطار المغرب العربي، ومن تجارب الأمم السابقة، والتجربة الحضارية العربية الإسلامية بالتحديد. أما المحور الأساسي التي تدور حوله نظرياته تلك فهو العصبية والدولة في علاقتهما بالدعوة الدينية. وهذه العلاقة تتحدد عنده كما يلي: 1- "العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه"، وفي مقدمة "ما في معناه" المصاهرة. 2- "الغاية التي تجري إليها العصبية هي الملك". 3- "الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم". 4- "أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها". إذا نظرنا إلى هذه التحديدات من زاوية الموضوع الذي يشغلنا في هذا المقال والمقالات السابقة، موضوع الهوية الوطنية وتشكلها، فإنه بالإمكان الربط بين سؤال ابن خلدون: "كيف تتكون الدول؟.." وبين سؤالنا: كيف تتشكل الهويات، باعتبار أن "الدولة الوطنية" و"الهوية الوطنية" هما بمثابة سفحي جبل واحد. ومن هنا يمكن النظر إلى ما دعاه ابن خلدون بـ"الدعوة الدينية" وبعبارة أوسع الثقافة (ولم يكن هناك فرق كبير بينهما في زمنه)، وما أطلق عليه اسم العصبية (وهي عنده قد تتسع لتشمل مجموعات من التحالفات القبلية وأماكن "أوطانها" ومصادر عيشها وأسلوب حياتها... الخ، أقول يمكن النظر إلى هذين العنصرين بوصفهما يشكلان في ترابطهما ليس فقط "البنية الكلية" لـ"الدولة" بل أيضا لـ"الهوية الوطنية". وإذا نحن عدنا الآن إلى موضوعنا الذي حددناه في المقال السابق وهو قيام الدولة الإدريسية في المغرب، بوصفها الدولة التي برزت فيها ومن خلالها الهوية الوطنية في المغرب -الهوية التي ما زالت حية وليس الهويات السابقة المتوارية خلف معارج التاريخ- فإننا سنجد أنه كان لهذه المحددات الخلدونية المتداخلة الدور الأكبر في قيام تلك الدولة والدول المغربية المتعاقبة إلى النصف الأول من القرن السادس عشر(ما بعد ابن خلدون) حيث ستحدث تعديلات جوهرية في تلك المحددات! لنترك الحديث عن هذه التعديلات إلى المقال المقبل، ولنرجع إلى الكيفية التي تشكلت بها الهوية الوطنية المغربية -أو على الأقل نواتها الصلبة- من خلال الدولة التي أسسها إدريس الأول في سبعينيات القرن الثاني للهجرة، حينما فر من ملاحقة العباسيين، ومعه مولاه راشد، ونزل عند إسحاق (بن محمد) بن عبدالحميد الأوربي زعيم قبيلة أوربة الأمازيغية، كما ذكرنا في المقال السابق. إن الأمر يتعلق أولا بالإجابة عن الأسئلة التي طرحناها في صلب المقال السابق: ما الذي جعل إدريس بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، يلجأ إلى المغرب بالذات دون أن تكون له فيه "حاضنة" من الشيعة (الشيء الذي استبعدناه في نفس المقال)؟ ثم لماذا قصد مدينة وليلي لينزل عند زعيم قبيلة أوربة: إسحاق بن محمد بن عبدالحميد؟ ومن هو هذا الرجل؟ وما الذي كان يربط بينه وبين إدريس؟ لقد اضطررنا في المقال السابق إلى تأطير هذه الأسئلة بمعطيات مساعدة تتعلق بظروف فتح طارق بن زياد للأندلس من جهة، ونجاح عبدالرحمن الداخل في الاجتياز من المغرب إلى الأندلس وتأسيس دولة فيها (الدولة الأموية الثانية) من جهة ثانية. وفي هذا المجال أبرزنا بعض المعطيات المحلية كالمصاهرة والموالاة (وهما تدخلان في مقولة ابن خلدون "النسب وما في معناه") التي كان لها دور كبير وحاسم في تمكن طارق بن زياد من فتح الأندلس من جهة، وفي نجاح الأمير الأموي "عبدالرحمن الداخل" في تأسيس دولة أموية في الأندلس. وسيكون علينا هنا إبراز معطيات جديدة كان لها هي الأخرى دور حاسم في نجاح إدريس بن عبدالله في تأسيس دولة مستقلة في "موريتانيا الطنجية" التي كانت من قبل مجرد معبر إلى الأندلس، دولة سرعان ما اتسع نطاقها ونفوذها لتشمل، إضافة إلى شمال المغرب، وسطَه غرباً وشرقاً ثم تلمسان عاصمة الغرب الجزائري، وقد كانت يومئذ محطة مركزية للدعاة الوافدين من المشرق والمعارضين منهم بصفة عامة للخلافة العباسية في بغداد. *** ثلاث شخصيات تجمع مصادرنا التاريخية على كونها العناصر الأساسية الفاعلة في قيام الدولة الإدريسية: أولهم: إسحاق بن محمد بن عبدالحميد الأوربي الذي آوى إدريس بن عبدالله واتفق معه على تأسيس دولة، ستعرف فيما بعد بالدولة الإدريسية (أو دولة الأدارسة). ويجمع المؤرخون على أن هذا الرجل كان معتزليّاً: يقول ابن أبي زرع "فنزل إدريس على اسحاق الأوربي المعتزلي، فأقبل عليه إسحاق وأكرمه وبالغ في أمره فأظهر له المولى إدريس أمره وعرّفه بنفسه، فوافقه على حاله وأنزله داره". ويقول البكري: " نزل إدريس على إسحاق الأوربي المعتزلي فتابعه على مذهبه"، بمعنى أن إدريس اعتنق الاعتزال على يدي مضيفه! وهذا ما يؤكه البلخي حين كتب يقول: "اشتمل إسحاق الأوربي على إدريس بن عبدالله حين ورد عليه فأدخله في الاعتزال". ويؤكد مؤرخ آخر نفس المعنى فيقول: "كان إسحاق معتزلي المذهب، فوافقه إدريس على مذهبه". ويحدثنا ابن الفقيه عن بلد طنجة وانتشار الاعتزال فيها فيقول: "والغالب على طنجة المعتزلةُ، وعميدهم إسحاق بن عبدالحميد وهو صاحب إدريس..." ويضيف ابن الفقيه أن إدريس الثاني كان على نفس المذهب عندما تولى بعد وفاة أبيه أمر الدولة الجديدة، فكتب يقول: "قالوا: وبلاد طنجة مدينتها (عاصمتها) وليلة (وليلي)، والغالب عليها المعتزلة، وعميدهم إسحاق بن محمد بن عبدالحميد، وهو صاحب إدريس بن إدريس، وإدريس موافق له" ويضيف: "وأم إدريس (الثاني) بربرية، مولدة، والبربر أخواله، واسم أم إدريس كنزة..". ومعروف عند سائر المؤرخين أن إدريس الأول، اللاجئ إلى إسحاق زعيم قبيلة أوربة، قد تزوج أمازيغية اسمها كنزة. (ولا نعرف بالضبط هل هي من أسرة إسحاق أو من قبيلته أو من قبيلة أمازيغية أخرى). وهكذا يكون مؤسس الدولة الإدريسية قد تابع إسحاق الأوربي في مذهبه السياسي/الديني وتزوج من امرأة أمازيغية مثله. وهذا يعني أنه اكتسب عند لجوئه إلى المغرب هوية جديدة فتحت له الباب لتأسيس دولة، هوية يؤسسها العنصران اللذان أكد عليهما ابن خلدون كما رأينا أعلاه، أعني: الدعوة الدينية (مذهب المعتزلة)، والعصبية (المصاهرة مع أهل البلد) الشيء الذي يجعل منه ومن أبنائه "مواطنين"، وليس مجرد غرباء لاجئين. يبقى أن نشير أن الاعتزال المقصود هنا هو المذهب الذي أسسه واصل بن عطاء، والذي كان يتحرك في أفق سياسي/ ديني، ولم يكن قد تحول بعد إلى مذهب ديني فلسفي..