في عام 2003 كانت "الثورة الوردية" في جورجيا إحدى الانتفاضات الشعبية العديدة على مظاهر الشمولية والخداع والفساد التي سادت في فترة ما بعد العهد السوفييتي. وبعد مضي سبع سنوات، ربما يرى البعض في ما جرى مؤخراً في كل من قرغيزستان وأوكرانيا، ما يساعد على إعادة تقييم ما يسمى بالثورات الملونة، على اعتقاد منهم بفشلها في إحداث تغيير جذري في المنطقة. لكن وفي ضوء التحولات الكبيرة التي حدثت في بلادي، فإنني أعرب عن خلافي التام مع وجهة النظر هذه. فليس مستحيلاً تغيير القيادات، وكم هي باهرة سيطرة الشعوب الثائرة على البرلمانات، والتلويح بأعلام الثورة والنصر في الشوارع الغاضبة. ولكن كم هو صعب إعطاء صفة مؤسسية لهذه التغييرات. وعلى رغم هذه الصعوبة فإن عملية الإصلاح هذه هي التي تحقق الثورات الحقيقية في حياة الشعوب، وليست الفقاعات اللونية والأعلام التي تلوح بها المظاهرات الغاضبة عبر شاشات التلفزيون. وفي جورجيا مضينا قدماً في تنفيذ أجندة الإصلاح الوطني السياسي، في الوقت ذاته الذي تواجه فيه بلادنا مهددات أمنية خارجية، بما فيها الاجتياح الروسي الذي تعرضنا له في شهر أغسطس من عام 2008. وليس أمامنا من خيار آخر سوى أن تنمو ديمقراطيتنا تحت تهديد فوهة البندقية، وفي مواجهة التهديدات المستمرة لحكومتنا. وحتى اليوم، لا تزال نسبة 20 في المئة من أراضينا تخضع للاحتلال الروسي، بينما تنصب الدبابات الروسية على بعد 30 ميلاً فحسب من العاصمة الجورجية. ولطالما ظل الكريملن على قناعته بضرورة تغيير حكومتنا المنتخبة ديمقراطياً بكل السبل الممكنة. ولكننا نستطيع القول بقوة ورسوخ مؤسساتنا الديمقراطية، التي يصعب انهيارها. كما أن عزمنا ثابت على المضي في طريق الإصلاح، في ذات الوقت الذي يتعزز فيه اقتصادنا الوطني بقوى جديدة. وفي الحقيقة، لم تفعل التهديدات التي نواجهها شيئاً سوى أنها جعلتنا أشد عزماً والتزاماً بالديمقراطية وبناء الأمة، ونحن ندرك أن أفضل ما يحفظ لجورجيا أمنها –إن لم يكن الضمانة الوحيدة لذلك- هو بروز جورجيا ديمقراطية جديدة، مضت شوطاً بعيداً في بناء شراكاتها وتحالفاتها مع المؤسسات الغربية. وبحسب وجهة نظرنا، فإنه يستحيل فصل الأمن الوطني عن الديمقراطية. فهما وجهان لعملة واحدة. وبالنسبة لنا فإن الأمن الوطني ليس شيئاًَ آخر سوى أن تتوفر لنا الحرية التامة في اختيار مستقبلنا. وكذلك يعني الأمن أن نثق في قدرة الحكم المسؤول على إنجاز نتائج ملموسة ومحددة. ومن أهم معاني الأمن في منظورنا، الحد من معدلات الفقر، وتحسين وزيادة الفرص التعليمية، كما أنها تعني توفر الرعاية الصحية اللائقة للمواطنين. إلى ذلك فإن الأمن هو مجموعة من منظومات المسؤولية الاجتماعية، التي توفر الضمانات الكافية لتمتع جميع مواطنينا بثمار التنمية وفوائدها. ضمن ذلك السياق، فإن من معاني الأمن توفير الفرص الاقتصادية عبر الإصلاحات القوية القادرة على خلق مناخ استثماري يتسم بالشفافية والجاذبية. كما يعني الأمن نشر حرية التعبير وازدهار الصحافة وارتفاع صوت ودور المجتمع المدني. ومن معاني الأمن: التعددية والتسامح. وهذان يتطلبان تبني سياسات تفتح الطريق أمام مشاركة الأقليات، والالتزام بنظام حكم قائم على التعدد الإثني والثقافي، وبإقامة مؤسسات شرطة وجيش وطنيين ونظام قضائي يقوم على التعددية نفسها. وأخيراً، فلا شك أن الأمن يعني قدرة الشعب على تغيير حكامه متى ما فشلوا في الإيفاء بما وعدوا به، دون ما حاجة منه إلى العودة إلى الشوارع والتلويح بأعلام ولافتات الغضب مجدداً. فمتى ما توفر الأمن بمعناه الحقيقي، يستطيع الشعب التعويل على مؤسسات حكم القانون والعمليات الانتخابية التي تؤمن له مطالبه وتطلعاته. وبذلك نستطيع القول إنه ليس لديمقراطيتنا أن تزدهر دون توفر الأمن اللازم لها، وإنه يستحيل لأمننا أن يتحقق في غياب الديمقراطية بالقدر نفسه. وللسبب عينه، فقد كانت للشراكات التي أقمناها مع الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي أهمية فائقة في ما أحرزناه من تقدم: نعني بذلك أن الإصلاحات الديمقراطية التي قمنا بها قد تعززت بفضل الشراكات التي أقمناها مع الغرب... والعكس صحيح. وعندما نلاحظ كيف تطورت الديمقراطية الجورجية، فإن من الواضح أن نلحظ كيف ساهمت الإصلاحات في دفع هذه الديمقراطية وتمتينها. فعندما واجهت جورجيا ترسانة من التدابير الاقتصادية التي استهدفت سحق اقتصادنا الوطني وهدمه، فقد استجبنا لتلك الضغوط بتعزيز إصلاحاتنا، مدركين في ذلك القيمة الحقيقية للاستقلال الاقتصادي. وخلال ست سنوات فحسب، انتقل اقتصادنا الوطني من اقتصاد راكد في مرحلة ما بعد الاشتراكية، إلى اقتصاد حديث تسوده قيم السوق الحرة. وفي السياق نفسه اتخذنا سلسلة من التدابير والإصلاحات وتوفير الشفافية اللازمة وتذليل تسجيلات الاستثمار بما مكن الاقتصاد الجورجي من احتلال المرتبة الحادية عشرة عالمياً من ناحية "سهولة الاستثمار فيها" وفقاً لقائمة البنك الدولي. وفي الوقت نفسه تصدينا بحزم لممارسات الفساد. وفي ذلك حققت جورجيا تقدماً ملحوظاً في قائمة الشفافية الدولية، بمستوى جعلها تتفوق على أي دولة أخرى غيرها منذ عام 2003. كما استثمرت جورجيا بوضوح في مجال سيادة القانون. واليوم يتولى مجلس مستقل عملية اختيار القضاة. وقد اقترب الوقت الذي يعين فيه قضاتنا في وظائفهم مدى الحياة، وهو ما يؤمن لهم حاجاتهم ويغنيهم عن الخضوع لأي ضغوط خارجية عليهم. في الاتجاه نفسه، نواصل إصلاح قوانيننا الانتخابية وتعميق ديمقراطية المشاركة التي بنيناها. وفي شهر مايو المقبل سوف تجرى أول انتخابات في تاريخ بلادنا لاختيار عمدة العاصمة تبليسي. ومن بيلاروسيا إلى قرغيزستان، باتت منطقتنا في مفترق طرق. وعلى رغم النجاح الذي حققته جورجيا، فنحن ندرك أن ديمقراطيتنا ليست مثالية ولا خالية من الشوائب والعيوب. بيد أن تعزيزها وتحقيق المزيد من النجاح فيها، يتطلبان النظر إلى أمننا الوطني وديمقراطيتنا باعتبارهما وجهين لعملة واحدة. ميخائيل سكاشفيلي ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ رئيس جورجيا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"