بعد الزيارات المتلاحقة للعديد من الشخصيات الدولية لإسرائيل بدءاً بنائب الرئيس الأميركي، وليس انتهاء بالسيدة أشتون التي تدير الدبلوماسية الأوروبية، وبعد الاجتماع الذي عقدته "الرباعية الدولية" وزيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي للولايات المتحدة للمشاركة في مؤتمر "آيباك" السنوي، يبدو للوهلة الأولى أن رزنامة المفاوضات حول الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، بدأت تتحرك إلى الأمام بعد فترة من الركود، لكن بإمعان النظر يتبين مدى الجمود الذي مازالت تتخبط فيه عملية السلام والصعوبات التي تحيط بها، فرغم الاعتذار الذي تقدم به نتنياهو إلى الإدارة الأميركية على إعلانه بناء 1600 مستوطنة في القدس الشرقية وتزامن ذلك مع زيارة جو بايدن إلى إسرائيل، لم يستطع البيت الأبيض بلع الإهانة التي وجهتها له الدولة العبرية في وقت تحاول فيه الظهور بمظهر الوسيط النزيه في عملية السلام، والأكثر من ذلك أن إسرائيل شددت على أن المشكلة ليست في الاستيطان نفسه، الذي ما فتئت تؤكد عليه وتعتبره سياسة إسرائيلية ثابتة، بل هي فقط اعتذرت عن توقيت الإعلان لأنه لم يكن مناسباً في رأيها. والحقيقة أن المعضلة الأساسية في الصراع هي الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية واستمرار الاستيطان، وقضم المزيد من تلك الأراضي، وهو ما يبعد احتمالات التسوية على الأقل في المدى المنظور، أما مسألة التوقيت فهي قضية ثانوية الهدف منها اختبار الدولة العبرية لعزيمة الإدارة الأميركية وقدرتها على مواصلة ضغوطها، وربما تطبق إسرائيل سياسة الهجوم كأفضل وسيلة للدفاع عن سياستها الاستعمارية. وقد كان بإمكان أوباما اختيار المواجهة وتصعيد الموقف تجاه إسرائيل بإبداء حزم أكبر، أو التلويح بوقف المساعدات، أو غيرها من وسائل الضغط التي تملكها الولايات المتحدة، لكن بدا واضحاً من خلال حديث وزيرة الخارجية الأميركية، عن العلاقات الثابتة مع إسرائيل أن الإدارة الأميركية اختارت المهادنة، وهو ما دفع فريدمان الكاتب والمعلق الأميركي المعروف بصحيفة "نيويورك تايمز"، إلى انتقاد إسرائيل قائلًا إنه كان على نائب الرئيس الأميركي، عندما اطلع على الإعلان الإسرائيلي بتوسيع المستوطنات أن يرجع في نفس الطائرة التي أقلته إلى الدولة العبرية تاركاً رسالة واضحة مفادها أن "الأصدقاء الجيدين لا يتركون بعضهم يقودون وهم في حالة سكر، وهو ما تقومون به حالياً في إسرائيل باتخاذ مجموعة قرارات تحركها دوافع سياسية داخلية دون اهتمامكم بالتداعيات الاستراتيجية لهذه القرارات، لقد فقدتم كل صلة لكم بالواقع"، ومع أن "بايدن" لم يقم بما نصح به فريدمان، إلا أنه أشار إلى النتائج السلبية للسياسات الإسرائيلية التي تضر بالمصالح الأميركية في العراق وأفغانستان وباكستان، هذه الأضرار سبق أن نبه إليها قائد القيادة المركزية الأميركية، الذي حذر من تداعيات السياسة الإسرائيلية على القوات الأميركية المنتشرة في المنطقة. والحقيقة أن مثل هذه التحذيرات قد تعيد فتح النقاش الذي أثاره أكاديميان أميركيان هما، "والت" و"ميرشايمر" اللذان تناولا في كتابهما اللوبي المدافع عن إسرائيل في الولايات المتحدة والنفوذ القوي الذي يتمتع به في الساحة السياسية الأميركية، فضلاً عن قدرته على التأثير على الساسة في واشنطن خدمة للمصالح الإسرائيلية. وحسب هذين الأكاديميين لم يعد التحالف الأميركي- الإسرائيلي قائماً على أساس أخلاقي، ذلك أن إسرائيل ليست الدولة الضعيفة التي يهددها جيرانها العرب، كما كان الحال عليه في السابق، بل أصبحت دولة قوية تحتل الأراضي الفلسطينية وتقمع شعباً محتلًا، كما أشارا أيضاً إلى انتفاء العلاقة الاستراتيجية بين البلدين لأن إسرائيل لم تعد ذلك الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة كما كانت عليه خلال فترة الحرب الباردة والصراع بين المعسكرين الشيوعي والرأسمالي، بل إن المشاعر المناهضة لأميركا في العالم الإسلامي ترجع في جزء كبير منها إلى مساندة ا لإسرائيل، وقد كان الجنرال بترايوس، واضحاً في هذا السياق بإعلانه أن غياب تقدم ملموس في قضية الشرق الأوسط يهدد أمن القوات الأميركية في المنطقة والتي يبلغ قوامها 200 ألف جندي تقريبا. أما السيدة أشتون المسؤولة عن السياسة الخارجية الأوروبية، فقد أعادت على مسامع الإسرائيليين نفس الكلام المعروف عن الحاجة إلى تحقيق السلام في المنطقة، وقيام دولة فلسطينية، وبالطبع لم تترك تصريحات "أشتون" أي تأثير على المسؤولين الإسرائيليين، بل عكست إما الضعف الأوروبي، أو النفاق الذي تبديه تجاه موضوع الشرق الأوسط، أو هما معاً. وأمام هذا الغياب التام لأي تحرك أوروبي حقيقي في اتجاه موضوع حساس يؤثر على السلم والأمن الدوليين والاكتفاء بالتدخل الخجول وردات الفعل كلما تعقد الوضع وتوقفت المفاوضات، فإنه ليس مستغرباً أن تتمادى إسرائيل في سياستها التي عبر عنها مؤخراً "مايكن أورين"، السفير الإسرائيلي في واشنطن في مقال نشرته صحيفة "هيرالد تريبيون" اعتبر فيه أن المشكلة الرئيسية لا تكمن في تكثيف النشاط الاستيطاني داخل القدس، بل في المطالب الفلسطينية المتزايدة، رغم أن هذه المطالب تنادي فقط بتطبيق قرارات الأمم المتحدة الصادرة منذ العام 1967. وإذا كان أوباما قد نجح داخلياً في تمرير قانون إصلاح الرعاية الصحية بعد جدل استمر طويلاً، وأعاد الهيبة للبيت الأبيض والحزب "الديمقراطي" الذي كان وراء المشروع الطموح ما سيدخل اسمه في سجل الرؤساء المؤثرين والمصلحين، فإن العالم يأمل في أن ينعكس هذا النجاح الداخلي على السياسة الخارجية لإدارته، وتحديداً في سلام الشرق الأوسط، فبعد انتصاره الواضح على الساحة الداخلية يتوفر أوباما حالياً على هامش أكبر من المناورة على الصعيد الدولي. أما في حال قرر أوباما التنازل عن هذا الهامش والتراجع أمام نتنياهو، فلا شك أن مصداقيته على الساحة الدولية ستضعف في وقت يراقب فيه العالم الطريقة التي سيتعامل بها الرئيس الأميركي مع التصلب الإسرائيلي وسياستها المتحدية لمصالح القوى العظمى الوحيدة في العالم.