التغير المناخي... تحدٍّ صحي عالمي
شهد يوم أول من أمس (السبت) إحياءً دولياً لذكرى ساعة الأرض (Earth Hour)، التي تحل كل عام في السبت الأخير من شهر مارس، بين الساعة الثامنة والنصف والتاسعة والنصف مساء، حسب التوقيت المحلي للمدن المشاركة. وتعتبر احتفالات عام 2010 هي الأكبر على الإطلاق حتى الآن، حيث شارك فيها هذا العام أكثر من مليار شخص في 126 دولة مختلفة حول العالم. ويهدف هذا الحدث إلى زيادة الوعي بالتغيرات المناخية التي يتعرض لها كوكب الأرض حالياً، وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية في الجهود الرامية إلى وقف هذا التغيير، من خلال إطفاء الأنوار غير الأساسية، وبقية مصادر استهلاك الطاقة غير الضرورية، مثل الإضاءة التي توجه من الخارج على المباني الشاهقة، وناطحات السحاب، وبقية الأبراج والعلامات السياحية. وبالفعل تم هذا العام إطفاء الإضاءة، عن أكثر من 13 ألف برج ومعلم سياحي حول العالم، مثل فندق برج العرب وبرج خليفة في مدينة دبي.
وتأتي هذه الزيادة الهائلة في عدد المشاركين عاماً بعد عام في ساعة الأرض، بالترافق مع زيادة مماثلة في الإدراك العام لطبيعة التغيرات المناخية التي يتعرض لها كوكبنا حالياً، وخصوصاً ظاهرة الدفء العالمي أو الاحتباس الحراري، التي يعتقد أنها ستكون ذات عواقب وتأثيرات وخيمة على معظم جوانب الحياة البشرية في القرن الحادي والعشرين، كالجوانب الاقتصادية، والمالية، والاجتماعية، والبيئية، والأمنية، بالإضافة طبعاً إلى الجانب الصحي والطبي.
فمنذ سنوات والأدلة العلمية تتراكم واحدة تلو الأخرى، مؤكدة أن التغيرات المناخية سيكون لها أثر هائل، وواسع المدى، على صحة غالبية الشعوب والمجتمعات. فارتفاع درجة الحرارة، وزيادة منسوب البحار والمحيطات، بالإضافة إلى التقلبات الجوية الشديدة والمفاجئة، كلها عوامل ستؤدي في النهاية إلى اضطراب إمدادات مياه الشرب النظيفة، وتلوثها بالميكروبات والجراثيم والمخلفات والسموم، وهو ما سيؤدي بالتبعية إلى زيادة انتشار أمراض الإسهال، وخصوصاً بين الأطفال. وبمراجعة بعض الأرقام والإحصائيات المرتبطة بأمراض الإسهال، يمكننا أن ندرك بسهولة مدى خطورة هذه المجموعة من الأمراض. فبداية، يصيب الإسهال ملياري شخص سنوياً، أو ما يعادل ثلث أفراد الجنس البشري. ولذا في عام 2004، احتل الإسهال المرتبة الثالثة على قائمة أسباب الوفيات في الدول الفقيرة، متسبباً في 7 في المئة من جميع الوفيات التي وقعت بين شعوب تلك الدول. وبالنسبة للأطفال الأقل من عمر خمس سنوات، احتل الإسهال المرتبة الثانية بين أسباب الوفيات في هذه الطائفة العمرية، وتخطته فقط في هذه القائمة الوفيات الناتجة عن الالتهاب الرئوي الحاد. ويتسبب الإسهال حاليّاً في وفاة 1.5 مليون طفل سنوياً، 80 في المئة منهم دون عمر السنتين. هذا بالإضافة إلى أن الإسهال يعتبر أحد الأسباب الرئيسية للإصابة بسوء التغذية بين من هم دون سن الخامسة. وبالنظر إلى أي من هذه الحقائق، فليس من العسير إدراك خطر الإسهال، وخصوصاً على الأطفال الرضع، وهو الخطر الذي يتوقع له أن يتضاعف في ظل التغيرات المناخية سابقة الذكر.
ويتوقع أيضاً أن تتسبب هذه التغيرات في اتساع نطاق ومدى انتشار العديد من الأمراض المعدية المنقولة بالحشرات، مثل الملاريا وحمى "الدنك" أو "الضنك" (Dengue Fever). وهذه الأمراض تشهد حالياً بالفعل زيادة في معدلات الإصابة بها، وفي الوفيات الناتجة عنها، بسبب ارتفاع درجة الحرارة الذي يخلق بيئة مناسبة لتوالد وتكاثر الحشرات الناقلة للأمراض، واتساع الرقعة الجغرافية التي تستوطنها. هذا بالإضافة إلى أن الفيضانات المتوقعة، وغرق المدن الساحلية تحت سطح البحر، سيشكلان إحدى أكبر الكوارث الطبيعية التي عرفها الجنس البشري في تاريخه. وستكون الطامة الكبرى، أو كارثة الكوارث، هي تحالف تلك المصائب الطبيعية مع الأوبئة المرَضية، ليشكلا ما يعرف بوفيات ما بعد الكارثة، التي لا تنتج عن الكارثة مباشرة، ولكن تكون من التبعات التي تليها. وعلى رغم أن هذه التبعات تختلف أشكالها، وتتنوع أساليبها في التسبب في المزيد من الوفيات، إلا أن انتشار الأمراض المعدية هو أكثر أساليبها وطأة، وأشد أسلحتها فتكاً. وعلى سبيل المثال كان هذا التحالف غير المقدس، هو الكابوس الأعظم الذي سلط على ذهن القائمين على شؤون الصحة العامة، بعد كارثة تسونامي التي أصابت جنوب شرق آسيا قبل بضعة أعوام. فعلى رغم أن الكارثة الأولية تسببت في مقتل مئات الآلاف غرقاً، إلا أنه كان من الممكن أن يلقى مئات الآلاف حتفهم، وربما حتى الملايين، من جراء أوبئة محلية أو إقليمية من الأمراض المعدية الوبائية.
وهذه الجوانب الصحية المختلفة، تجعل من التغيرات المناخية المتوقعة، قضية صحية، دولية الأبعاد، لن يفلت من تأثيراتها شعب أو دولة. وإن كانت الشعوب الفقيرة، كما هو معتاد، ستتحمل في الغالب العبء الأكبر لتلك التأثيرات، نتيجة لضعف النظم الصحية عندها، وقلة الموارد المالية المتاحة لحكوماتها. وفي الوقت الراهن تقدر منظمة الصحة العالمية أن التغيرات المناخية تتسبب في أكثر من 150 ألف وفاة سنوياً في الدول الفقيرة، بسبب التأثيرات التراكمية للتغيرات المناخية، مثل أمراض الإسهال، والأمراض المعدية الأخرى، والفيضانات، وفشل المحاصيل وما ينتج عنه من سوء تغذية ومجاعات تحصد أرواح الكثيرين.
د. أكمل عبدالحكيم