"الإنسان"... البنيان!
لماذا تقدم "الغرب" وتأخر "العرب"؟ الجواب بكل بساطة هو في النقطة التي جعلت الفرق واضحاً بين الكلمتين، فمحل هذه النقطة الفاصلة زمنياً وعملياً هو "الإنسان"، البنيان الذي "يسخَّر" من أجله كل شيء ولا يسمح لأي شيء أن "يسْخَر" منه.
وإذا أردنا أن نرسم خطاً بيانياً يوضح موقع هذا "الإنسان" في سلم الترقي الحضاري، فإننا نستطيع بعد ذلك أن نرد على السؤال الجوهري السابق.
عندما اختفى الإنسان من صلب عملية التنمية التي دارت رحاها في المجتمعات التي توصم بالتخلف عن اللحاق بركب التقدم، وأصبحت الآلة سواء كانت نظاماً أو مؤسسة أو شركة، هي التي تقود الإنسان المعني الأول بالتقدم والتنمية، انقلبت الأوضاع ولا نسمع الآن إلا عن زيادة عدد "السكان" وليس الإنسان ومشاكله والبحث عن سبل الحد من نموه بتحديد نسله أو تنظيمه، لأن قيمته المعنوية زالت وأما المادية فهي أزهد بكثير مما نتصور.
في أحد محال التجزئة الكبري في بريطانيا وقفت امرأة مسنة أمام طاولة دفع الحساب، وعندما انتهت وأثناء العودة إلى السيارة وجدت أن الباب الذي دخلت منه قد أغلق.
وظلت في الطابور لا تحرك ساكناً وهي تجادل العاملين على أنها لا تملك الطاقة التي تعينها للوصول إلى مواقف السيارات البعيدة عن سيارتها التي تقف حيث دخلت، وقد أصرت على فتح ذلك الباب وإلا سترفع شكواها إلى المسؤولين عن هذا المتجر، وبعد تدخل أحد العاملين جاء المدير وفتح الباب وجر عربتها بيديه إلى أن أوصلها إلى حيث أصرت.
هذه هي الحضارة أما بقية الأدوات التي نراها تتطور من حولنا فهي لابد وأن تكون في خدمة هذا الإنسان وإلا كانت النتيجة مزيداً من التخلف وإن ملكنا أرقى التقنيات.
مع ارتفاع نبرة التبرم من هذا الوضع، نلتفت فلا نجد تقديراً لهذا الإنسان وما أنعم الله عليه من نعمة العقل والتفكير والإبداع الذي أحياناً قد يعجز بعض المؤسسات عن توفير الميزانيات المطلوبة لتحويل ذلك إلى منجزات حضارية لا تنفع مجتمعاتنا فقط، بل البشرية جمعاء.
في أواخر عهد الدولة العثمانية جاء أحد علماء الفلك باختراعه "المسبار" الفضائي من أجل استخدامه في رؤية الهلال فقامت عليه قيامة فقهاء الدولة وأطلقوا عليه كل أوصاف الخروج عن المعهود من الدين، فوقعت الأمة بشقيها في غيبوبة الظلام، حتى جاءت أميركا لتضع مسبار "هابل" الضخم في الفضاء ليس لرؤية الهلال فقط وإنما لرؤية كل ما لا يمكن رؤيته بالعين المجردة وبدرجة خطأ صفري، وها نحن ماضون في كل رمضان يصوم المسلمون شهرهم في ثلاثة أيام مختلفات، فهل ذلك فعلاً من تنقلات الهلال أم لأن الإنسان في مجتمعاتنا إذا عَلِم يُعدم علمه.
في محاضرة بهذا الشأن منذ عقود، لفت نظرنا في حيثياتها، أن الفارق الحضاري بيننا وبين "الغرب" المتقدم خمسمائة عام وفق آخر الدراسات الزمنية المختصة بتتبع سير الحضارات وزوالها.
وبعد عقود من ذلك الحديث العلمي نجد أننا لم نقدم للحضارة الإنسانية منجزاً يقرب الفاصل الزمني بيننا وبين الآخرين، لمضينا في تحطيم كيان وبنيان هذا الإنسان، فلم يعد هو القاعدة الأساسية لقيام أي بنيان سليم عليه وهو ما يبعد المسافات بيننا وبين الأمم المتحضرة، وإن اعتمدنا على استيراد كل العلوم فإنه لن يعيد ذلك الإنسان إلى مكانه الصحيح لأنه في ذاته قد تحول إلى آلة أخرى تضاف إلى بقية الآلات.