ليس جديداً ما أعلنته وزيرة الخارجية الأميركية الأسبوع الماضي في خطابها أمام "إيباك" في واشنطن حين تحدثت عن التزام الإدارة الأميركية بضمان أمن إسرائيل، فالقادة الأميركيون يؤكدون هذه الضمانة يوميّاً كي يضمنوا بقاءهم في مناصبهم، وقد علمتهم دروس التاريخ أن الخروج عن رضا الصهيونية ولو قيد أنملة يعني مواجهة مأساة أو تهديداً بها. وكان يكفي كلينتون ما عانته من مرارة يوم وقع زوجها الرئيس في فخ مونيكا المخجل، ولم يكن يغيب عنها أن الفخ مصنوع بإتقان وهي تعرف أين صنع ومن الذين صنعوه، ومع ذلك فقد لاحقها الصهاينة يوم رشحت نفسها للرئاسة لمحاسبتها على شتيمة قيل إنها وجهتها ليهودي قبل عشر سنين. وربما كان هذا القلق الدفين هو ما دعاها إلى خلط الموقف الشخصي مع الموقف الرسمي فقد قالت "ضمان أمن إسرائيل أكثر من مجرد موقف سياسي، إنه بالنسبة لي التزام شخصي لن يتذبذب أبداً"! والقادة الأميركيون لا ينسون لحظة مآسي أسرة كيندي وفضيحة "وترجيت"، وعقلاؤهم المثقفون يتذكرون إنذار الرئيس بنيامين فرانكلين لشعب أميركا من يوم يأتي بعد مئة عام يحكمهم فيه اليهود (الصهاينة)، ولا ينسون تحذير لينكولن لأمته من خطر استيلاء تلك الفئة القليلة على قوى الولايات المتحدة واقتصادها. ولقد اغتيل لينكولن في بدء فترة رئاسته الثانية، واغتيل الرئيس ويليام هيريسون عام 1841 بعد شهر من توليه لأنه وقف ضد نفوذ تلك الأقلية. ووجد الرئيس تايلور مقتولاً في ظروف غامضة وكشف التحقيق أنه مات مسموماً إثر وجبة عشاء! والحديث يطول حول ما شكل هاجساً مقلقاً في وجدان القادة الأميركيين. وينسحب هذا الفزع على بعض قادة أوروبا الذين يتمتعون بحرية كبيرة في التعبير عن كل أفكارهم عدا انتقاد إسرائيل، فمجرد الانتقاد يعرض من انتقد للعقوبات ولتهمة معاداة السامية التي تعد جريمة يعاقب عليها القانون وقد بات سيفاً يطوق الأعناق! وبالطبع لا يصح التعميم على كل القادة والسياسيين في الغرب، فهناك رجال شجعان في أوروبا وفي أميركا من أمثال غالاوي الذي نذكر له أنه فضلاً عن مواقفه الشهيرة في مواجهة الحصار على غزة، أطلق مؤخراً حركة باسم "تحيا فلسطين" في الوقت الذي كانت فيه كلينتون تبرر تهويد القدس وتضع اللوم على الفلسطينيين وتحملهم مسؤولية التوتر، لأنهم يتعبون الجنود الإسرائيليين حين يقاومون الرصاص والقنابل والجرافات، ولأنهم يعترضون على هدم المسجد الأقصى والآثار الإسلامية فيه، وعلى بناء كنيس الخراب. ولم يفاجأ أحد من العرب والمسلمين بتصريحات وزيرة الخارجية الأميركية، فليس فيها جديد سوى النصيحة المخلصة التي كشفت عن حقيقة ما تفكر فيه الوزيرة حين قالت "من واجب الولايات المتحدة أن تقول الحقيقة حين تقتضي الضرورة حيث لابد من اتخاذ خطوات لإنهاء الصراع مع الفلسطينيين لأنه يهدد مستقبل إسرائيل على المدى الطويل كدولة يهودية آمنة وديمقراطية"، و قد اعترفت الوزيرة بأنه لا يمكن للوضع الراهن أن يدوم، ولذلك هي تنصح إسرائيل بأن تتخذ خيارات صعبة وضرورية! وأحسب أنها كانت تعيش حالة من الاضطراب النفسي وهي تلقي كلمتها في حضور نتنياهو، وفي حضور مقربي البيت الأبيض من الـ"إيباك" التي ترسم مع مثيلاتها من منظمات الصهيونية سياسة الولايات المتحدة. ويبدو أن الجانب الإيجابي في هذا الخطاب هو الصراحة والوضوح، فالولايات المتحدة التي نريد لها دوراً فاعلاً في الوصول إلى السلام غير قادرة على لعب دور الوسيط لأنها ملتزمة بأمن طرف واحد من طرفي الصراع، وعلى الطرف الثاني أن يدرك أنه لا ضامن لأمنه وحقه سوى قدراته الذاتية، وستكون الولايات المتحدة (كما كانت دائماً) في خندق الإسرائيليين ضد العرب والفلسطينيين والمسلمين عامة في أية مواجهة محتملة دون نقاش أو سؤال عن موقع الحق والعدل. وقد آن أن يفهم كل الواهمين من العرب والمسلمين هذه الحقيقة الواضحة، كي يعيدوا توصيف رؤيتهم للصراع، وكي يجيبوا عن الأسئلة الكبرى: أهم معنيون بالقدس وبمقدساتهم المسيحية والإسلامية فيها أم أنهم ينتظرون أن تدافع الولايات المتحدة عن مقدساتهم؟ وقد يبدو عجيباً أن تقف المسيحية العالمية موقفاً أشد ضعفاً من موقف المسلمين، فالقدس ليست مقدسة عند المسلمين وحدهم، فقدسيتها المسيحية تتعرض لانهيار تاريخي مع تهويد القدس، وكل الثقافات الإنسانية مطالبة بالدفاع عن التعددية وعن التنوع الثقافي في القدس، لكن لا أحد يجرؤ على تحدي إسرائيل سوى أولئك الشباب الذين يقفون في مواجهة الموت ويدافعون بأجسادهم الغضة بالنيابة عن أمة المليار ونصف مليار مسلم، وهم يرهقون إسرائيل على رغم قلة عددهم وما يعانون من الحصار ومن الاعتقال والدمار. وإذا كانت الأمة العربية ومعها الإسلامية عاجزة عن اتخاذ مواقف حادة فأبسط ما ينبغي فعله هو اعتبار القضية الفلسطينية قضية إسلامية، وإن لم يكن ذلك ممكناً الآن فلتعد القضية إلى كونها قضية عربية وليست صراعاً إسرائيلياً/ فلسطينياً فحسب، وهذا لا يعني انتقاصاً من حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وإنما يعني ألا يترك الفلسطينيون وحدهم في ساحة الدفاع عن مقدسات الأمة. وقد بات مخزيّاً أن يعجز العالم الإسلامي عن اتخاذ أي فعل لدعم أهل غزة الذين طال حصارهم، وليسأل المعنيون أنفسهم سؤالاً افتراضياً: ماذا لو أن المقاومة ألقت سلاحها وأذعنت لإرادة إسرائيل؟ والإجابة واضحة سيتغير على الفور الوضع السياسي في المنطقة، وستمتد إسرائيل في كل صوب وستهدم كل ما لدى العرب والمسلمين من أركان ومقدسات، وستعود إلى مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي أجهض، فلولا الانتصار في جنوب لبنان، وهزيمة إسرائيل في حرب "الوعد الصادق"، ولولا صمود أهل غزة، لأصبحت الأمة عراقاً مهدماً ينتحب، ولتحول كل الآمنين في أسرّتهم اليوم إلى "غوييم" ينتظرون مقصلة الصهيونية التي تستمد قدرتها على القتل والتدمير من أساطير الحقد والكراهية والاستعلاء على كل شعوب الأرض. إن أبسط ما ينبغي عمله هو إعادة توصيف رؤية العرب والمسلمين لقضيتهم التي كانوا يسمونها مركزية، وما أخطر أن تصير ثانوية! وما دامت الولايات المتحدة ودول غربية كبرى تعلن ضمانها لأمن إسرائيل، فمن واجب العرب والمسلمين أن يعلنوا ضمانهم لأمن الفلسطينيين.