ارتفعت الأصوات، وفاضت الصحف بالكلمات، وظهر المحللون السياسيون على الشاشات الفضائية في سيمفونية ترحيب بما تضمنه بيان اللجنة الرباعية الأخير في 19 مارس الجاري بخصوص إدانة الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية. ولم يكلف أحد نفسه بإمعان النظر في البيان وفي ما سبقه من بيانات أخرى للجنة كي يقيّم موضوعياً ما يمثله هذا البيان. وبدأت الاجتهادات بخصوص ما يمكن أن يخلفه هذا البيان "غير المسبوق" من آثار على الداخل الإسرائيلي، وبَشَّر بعض هذه التحليلات باحتمال اهتزاز وضع نتنياهو وإفساح الطريق لخصومه كي يخلفوه في انتخابات قادمة، وكأن هؤلاء الخصوم يختلفون عنه في شيء جوهري، وكأننا لم نجرب السيناريو نفسه في حكومة نتنياهو الأولى في 1996. ولم يهتم أحد بالنظر في بيان الرباعية لتقييم "الإضافة" التي سطرها في سجل الرباعية الذي يدعو إلى الإحباط والرثاء. وقصة اللجنة الرباعية، كما هو معروف، ليست وليدة اليوم، فقد تشكلت في أعقاب طرح الإدارة الأميركية السابقة خريطة الطريق في 2002، ونجاحها في أن تجعل منها وثيقة مقبولة من قوى عالمية كبرى بحيث باتت تعبر عن موقفها من عملية التسوية السياسية للصراع العربي/ الإسرائيلي. وتضم اللجنة الرباعية ممثلين عن كل من الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، وسجلها فارغ من أي إنجاز، ويثير هذا عدداً من الملاحظات على أدائها. أما الملاحظة الأولى فتتعلق بالصياغة التي لا يمكن فصلها عن قوة القرارات وفاعليتها، وإذا كنا نحن العرب نأخذ على أنفسنا كثيراً أننا نكتفي بالقول في مواقف لا تصلح معها إلا الحركة الفاعلة فإن الأمر نفسه ينسحب على الرباعية، مع فارق كبير يتمثل في أنهم يملكون من أدوات التأثير على إسرائيل ما لا نملك، ويسهل على قارئ بيانات الرباعية أن يدرك بوضوح أن مواقفها لا تخرج عن تلك الصياغات المثيرة للأعصاب على نحو: و"ترحب"، و"تعرب عن تقديرها"، و"تحث على"، و"تؤكد على"، و"تدعو إلى"، و"تناشد"، و"تذكِّر"، و"تعبر عن قلقها"، و"تلاحظ"، و"تشجب"، وغير ذلك من الصياغات التي نألفها نحن العرب تماماً. غير أن الأهم من ذلك أن أيّاً مما "حثت" عليه أو "دعت إليه" أو غير ذلك من مواقف للرباعية لم يتحقق في إشارة إلى أنها تجلس في مقعد من يكتفي بتدوين التاريخ وإن بمداد متحيز. وينقلنا هذا إلى الملاحظة الثانية عن "الرباعية"، وهي أن التحيز الواضح يسم أعمالها منذ البداية، فهي ببساطة تساوي بين القاتل والمقتول، وما من مرة وجدت نفسها مضطرة إلى الإشادة بسلوك فلسطيني إلا وأرفقت إشادتها هذه بأخرى مماثلة لسلوك إسرائيلي، فهي في بيان 20/9/2005 تقر بإدانة السلطة الفلسطينية للعنف لكنها ترحب بالشجاعة السياسية لشارون، وهي تعبر في بيان 30/1/2006 عن قلقها فيما يتعلق بالجدار العازل لكنها تذكر الحكومة الفلسطينية الجديدة بضرورة نبذ العنف، والاعتراف بإسرائيل، وقبول الاتفاقيات والالتزامات السابقة. وهي في بيان 23/9/2007 تعبر عن قلقها إزاء استمرار إغلاق معابر غزة لكنها تلاحظ في الوقت نفسه قلقها "البالغ" إزاء استمرار قصف إسرائيل بالصواريخ من غزة. وكذلك في بيان 25/6/2008 تكرر "عميق قلقها" من استمرار النشاط الاستيطاني الإسرائيلي، وتدعو إلى تجميده، لكنها تشيد بالخطوات "الطيبة" التي تتمثل في إزالة إسرائيل بعض نقاط التفتيش الرئيسية وفتحها عدداً من مراكز الشرطة الفلسطينية في المنطقة "ب"، وهي تدين في 29/9/2008 الزيادة في أعمال العنف التي يمارسها المستوطنون ضد المدنيين الفلسطينيين، لكنها تشجب في الوقت نفسه "أعمال الإرهاب" ضد الإسرائيليين بما فيها الهجمات الصاروخية. وهي كذلك تطالب "الجانبين" بتاريخ 26/9/2009 بالتوقف عن أعمال التحريض والعنف ضد المدنيين. وليست هذه الأمثلة سوى غيض من فيض. ويلاحظ أن اللجنة في موضوعات بعينها لم تحاول مداراة تحيزها الصارخ كما في تكرار الدعوة إلى الإفراج عن الجندي الإسرائيلي الأسير جلعاد شاليط دون أدنى ذكر لآلاف الأسرى الفلسطينيين. ونأتي إلى البيان الأخير للجنة، الذي قيل إنه يتضمن "إدانة" للأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية، وواقع الأمر أنه "يشجب قرار حكومة إسرائيل بالدفع قدماً بمخططات إنشاء وحدات سكنية جديدة في القدس الشرقية"، ومن الواضح أن هذا الشجب ينسحب على ذلك القرار تحديداً، وليس على مجمل النشاط الاستيطاني الإسرائيلي الذي يبقى التعامل الرباعي معه قائماً على طريقة "الحث على". وفيما عدا هذا جاء البيان نموذجاً أميناً لما سبقه من بيانات، فهو يكتفي بمراقبة التطورات مرحباً بالمفاوضات غير المباشرة، ومعتبراً إياها خطوة مهمة في الطريق إلى مفاوضات طبيعية، مؤكداً على مواقف سابقة للجنة تتعلق بإنهاء احتلال 1967 وتأييد حل الدولتين، مساوياً بين القاتل والمقتول في دعوته كلاً من إسرائيل والفلسطينيين إلى التصرف على أساس القانون الدولي والتزاماتهما السابقة، ليؤكد مجدداً على أن الأعمال المنفردة التي يتخذها "أي" من الطرفين(!) لا يجوز لها أن تجحف سلفاً بنتيجة المفاوضات، مشجعاً الحكومة الإسرائيلية على تجميد نشاطها الاستيطاني بما فيه النمو الطبيعي للمستوطنات، وداعياً إلى تفكيك البؤر الاستيطانية "غير القانونية" التي تم إنشاؤها منذ مارس 2001 (لا حديث عما سواها)، وداعياً الطرفين إلى التزام الهدوء وضبط النفس وتجنب الأعمال الاستفزازية والخطابة الملهبة للمشاعر(!). كما دعا البيان السلطة الفلسطينية بالذات إلى بذل كل جهد ممكن لتحسين تطبيق القانون والنظام ومكافحة التطرف العنيف وإنهاء التحريض(!)، معرباً عن القلق من استمرار تدهور الأوضاع في غزة، وداعياً إلى حل يلبي "هواجس إسرائيل الأمنية المشروعة" بما فيها إنهاء تهريب السلاح إلى غزة(!)، وشاجباً إطلاق "صاروخ" من غزة في اليوم السابق على اجتماع اللجنة (متجاهلاً كافة الغارات الإسرائيلية على غزة واقتحام القوات الإسرائيلية الضفة على نحو منتظم)، داعياً إلى الإفراج الفوري عن شاليط وحده. بعد ذلك هل تستحق قرارات اللجنة الرباعية أن تتصدر نشرات الأخبار وتحصد من الثناء أطيبه؟ أم أنه كتب علينا نحن العرب أن نعيش هذا المناخ الكئيب الذي لم يكن ينقصه سوى إنجازات وهمية للجنة يخيل للمرء أحياناً أنها لم توجد إلا لإثارة غيظنا؟