لكل مقام... مقال
شك مقيم، بحث دائم عن يقين، رحلة في البحث عن أجوبة بلا أسئلة، هي رحلة تقصي عوالم جديدة تفترض وتفرض الخروج من الذات إلى الآخر، رحلة خلق تسمى مجازاً كتابة مقال. أن تكتب مقالاً يعني أن تتحلى بشجاعة البوح، أن تعري أفكارك أمام جمهور قراء بمستويات فكرية ومعرفية متفاوتة، أن تتبادل الأدوار بينك وبين القارئ فتعرف ما يأسره وما يضجره. أن تكتب منه وله. هي محاولة لذيذة لاختطاف وعي وعقل القارئ. يكتب الكاتب مثيراً أطيافاً من مشاعر القارئ بين غضب، أو رضاً، حيرة أو لامبالاة. أن تكتب مقالا، أن تأخذ دقائق من يوم القارئ، يعني أن تحترم عقله.
لطالما عجبت من دفق وتنوع الأفكار لكُتاب الأعمدة اليومية، خاصة تلك الأعمدة الممزوجة بالسياسة العربية بكل سلبياتها، فيما تلامس أعمدة أخرى نبض "الشارع" إن صح التعبير لتنقل مشاكل قراء وتدق أبواباً مغلقة أو لتسمع رأياً آخر. كتابة المقال لهؤلاء فعل تغيير مستمر، مسؤولية يتحملها كاتب المقال طالما وافق أن يمارس هذا الفعل في هذه المساحة. فالكتابة اليومية أو الأسبوعية همٌّ لذيذ لا يحس به إلا من جرب عذابات المخاض ودقات ساعة النشر، هي مساحة من الحرية نمارسها ككُتاب رأي مقتحمين يوم القارئ بأفكار وتحليلات وتصورات لعوالم تمس أو لا تمس قارئ الجريدة. أن تكتب وتمحي، تصحح وتعدل، تضيف وتحذف أحيانا في بحث مستمر عن كمال النص واكتمال الفكرة، أن تكتب وأنت متيقن بأن القارئ سيتجاوز السطر الأول إلى منتصف المقال، للجملة الأخيرة.
أتاح نشر الصحف والمجلات إلكترونياً اليوم لكُتاب المقال ممارسة النقد الذاتي للمقال بفعل مسلسل التعليقات المنتقدة والمؤيدة لأفكاره، في سجال إلكتروني لا تتيحه الصحافة الورقية، لتظل الأسئلة معلقة والإجابات غير مكتملة، لتتوالد الأفكار من جديد لدى كُتاب المقال. فاختلاف وحتى تضارب الآراء بلا شك يثري المقال لتفتح الأبواب لمقال جديد. وفي عالم الصحافة الرقمي ينتشر المقال بين أبواب تعيد نشر مقالات صادرة في صحف الدول الأخرى، وما بين منتديات تستنسخ المقال ليعلق عليه رواد المنتدى بين منتقد ومؤيد. لقد غير زمن النشر الإلكتروني العلاقة بين الكاتب والقارئ من علاقة سلبية غالباً، فالقارئ المتلقي في الزمن الورقي ما زال متلقياً ولكن أتاح له زمن النشر الإلكتروني أن يكون متلقياً إيجابياً يتفاعل مع المقال بالتحليل والشرح، بالتصحيح والنقد. صحيح أن كاتب المقال ينطلق من موقف فكري، من قناعات ذاتية، لكنها في النهاية أفكار قابلة للتغيير أو التعديل، فلا ضرر من تغيير المواقف طالما امتلك الكاتب شجاعة الاعتراف بالخطأ وتصويب مواقفه أو آرائه، فلا ينقص ولا ينتقص من قدره أن يعدل أو يغير طالما استند إلى مرجعية فكرية أو أخلاقية.
حرية التعبير حق مكتسب لكل إنسان قبل أن تكون حقاً لكل كاتب مقال، بينما حرية المنع أحياناً واقع قد يمارسه الرقيب، حقيقة لا أحد يملك حرية مطلقة، وحرية التعبير والتفكير تتسع وتضيق في الأزمنة والأمكنة بين شمال وجنوب، شرق وغرب، لا حرية تعبير في دول تسلطية ولا حرية فكر في دول عقائدية.
اليوم يبقى المقال متاحاً إلكترونيّاً، لكن يبقى المقال الجيد في ذاكرة القراء، يشي بصاحبه، يجعل القارئ مميزاً لكاتبه دون قراءة اسمه أعلى أو أسفل المقال. هو اختصار للمسافات بين القارئ والكاتب، هو غاية كل كاتب مقال، هي البصمة الوراثية التي يخلفها الكاتب في كتاباته، هي غاية وحلم قد يأتي أو لا يأتي.