رائحة دخان في حديقة أميركا الخلفية!
فيما تطغى الحربان في جنوب غرب آسيا، وكذلك الاحتقان المتنامي مع إيران، على اهتمامات إدارة الرئيس أوباما وقائمتها الحافلة بالأمور المقلقة، برزت مؤخراً فنزويلا الغنية بالنفط والأقرب إلى أميركا لتتجاوز، هي أيضاً، ترتيبها الثانوي المعتاد في لائحة مصادر الإزعاج الأميركية، فإلى حد الآن تعامل أوباما مع شافيز، على أنه يساري شعبوي هوايته المفضلة انتقاد الولايات المتحدة في كل المناسبات دون أن يشكل خطراً حقيقياً عليها أو على أمنها، خلافاً لباقي الانشغالات الأخرى الملحة في جنوب غرب آسيا مثلا. ولكن على رغم ذلك تشهد فنزويلا حالياً حقبة جديدة من استنساخ التجربة الكوبية في تلك البلاد، باتت جديرة حقاً بالتأمل، لاسيما في ظل القمع الذي يتعرض له المناوئون لشافيز داخل البلاد، والخطوات المتسارعة التي اتخذتها الحكومة الفنزويلية للترويج للثورة الاشتراكية في عموم أميركا اللاتينية. فقد انخرط شافيز في جهود محمومة لاستيراد خبراء ومستشارين من كوبا، وصل عددهم حسب التقديرات إلى 30 ألفاً- يعمل العديد منهم في قطاعات مختلفة تتوزع على الاستخبارات والأمن والشؤون السياسية، فضلا عن الطواقم الطبية التي تُستجلب أيضاً من كوبا. ولعل الخطوة الأهم في استنساخ التجربة الكوبية ونقلها إلى فنزويلا تمثلت في تقليد نائب الرئيس الكوبي، راميرو فالديز، منصباً استشارياً بارزاً في فنزويلا، وهو ما يعتبره المعارضون تسريعاً في وتيرة التحول إلى النموذج الكوبي وشيوعية كاسترو، ويعد فالديز، الذي يشغل منصب وزير الاتصال في الحكومة الكوبية، هو الرجل الثالث في هرم السلطة في بلاده، وقد أنيطت به في فنزويلا مهمة معالجة أزمة الكهرباء وإن كانت مؤهلاته تلقي بالكثير من الشك حول مدى فعاليته في هذا المجال.
ولم يكتف شافيز باستيراد النموذج الكوبي القريب منه فحسب بل لقد نسج علاقات ووطد تحالفات مع بلدان أخرى بعيدة بهدف استفزاز واشنطن، مثل روسيا التي أجرت مع فنزويلا مناورات عسكرية مشتركة، كما وقع البلدان اتفاقاً تزود روسيا بموجبه حليفتها فنزويلا بقيمة ملياري دولار من الأسلحة، هذا في الوقت الذي توسع فيه الصين علاقاتها التجارية مع فنزويلا بشرائها لأكثر من 330 ألف برميل من النفط الفنزويلي يومياً، كما وقعت اتفاقات أخرى لتطوير قطاع الطاقة وبهدف استيراد مزيد من النفط. وفي الإطار نفسه أنهت الصين لتوها تطوير قمر اصطناعي للاتصال بقيمة تصل إلى400 مليون دولار. وربما كانت إيران هي البلد الأكثر سعياً للتقارب مع فنزويلا واكتسابها إلى جانبها في صراعها مع الغرب، حيث أبرم البلدان اتفاقات في العديد من المجالات في الفترة الأخيرة، تشمل البنية التحتية والطاقة والصناعة، وكان شافيز قد زار طهران أكثر من مرة والتقى بالمسؤولين الإيرانيين، وقيل إن الجانبين اتفقا على مواجهة "الإمبريالية الأميركية" وتخليص بلدان العالم من "نير الإمبريالية".
أما داخلياً فلا يفتأ شافيز يشيد بالزعيم الكوبي، فيدل كاسترو، باعتباره نموذجه السياسي الذي يسعى إلى تطبيق توجهاته في فنزويلا، وقد خطا بالفعل خطوات في هذا الاتجاه من خلال تكريس الحكم الشمولي الذي أشار إليه تقرير لجنة الأميركتين حول حقوق الإنسان في انتقاده اللاذع للاتجاه الذي تسلكه فنزويلا تحت حكم شافيز، مشيراً إلى ما يقوم به من إضعاف لاستقلالية القضاء، وتضييق على وسائل الإعلام بهدف دفعها للصمت، فضلا عن عرقلته لعمل المسؤولين المنتخبين ومنعهم من تطبيق برامجهم، بالإضافة إلى مضايقته للمعارضين وللجماعات المدافعة عن حقوق الإنسان.
وكأن ذلك لا يكفي شافيز، فقد وجه قاض إسباني في الأسبوع الماضي اتهاماً إلى فنزويلا بالتواطؤ مع بعض الجماعات الإرهابية بما فيها منظمة "إيتا" التي تنشط في إقليم الباسك الإسباني، بالإضافة إلى منظمة "فارك" في كولومبيا، وفيما كانت شعبية شافيز طاغية في السنوات الماضية وكان محط إعجاب وتقدير كبيرين من قبل شعبه باعتباره مصلحاً ومدافعاً عن مصالح الشرائح الفقيرة بات اليوم عرضة للاحتجاجات المناوئة لحكمه لاسيما بعدما انكشف مخططه للبقاء رئيساً مدى الحياة.
ولأن كوبا تعتمد كثيراً على النفط الفنزويلي الذي تحصل عليه بأسعار مخفضة، لذا فهي تنزعج كثيراً من احتمال سقوط نظام شافيز، وترغب بقوة في مساعدته على البقاء في السلطة، وفي هذا الإطار ربما يأتي إرسال فالديز إلى كاركاس لدعم حظوظ شافيز وتدعيم أركان نظامه. ولكن كوبا منشغلة، هي أيضاً، بمشاكلها الداخلية في ظل حالة كاسترو الصحية وافتقاد شقيقه، راوول، لكارزمية فيدل.
أما بالنسبة لإدارة أوباما التي تبدو منشغلة في حروبها البعيدة فقد تصحو ذات يوم على تحدٍّ أكبر بالقرب منها، فيما كان يعتبر بمثابة حديقة خلفية لها، وهو ما يحتم على واشنطن إعادة الاهتمام مجدداً بأميركا اللاتينية مع تركيز خاص على ما يجري في فنزويلا وعلاقاتها المتشعبة مع كوبا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"