أثار إعلان نتنياهو بناء ألف وستمائة منزل جديد لليهود في القدس الشرقية، استياء ساسة العالم أجمع، بما في ذلك زعماء الولايات المتحدة. وزاد نتنياهو على ذلك الاستفزاز ببناء كنيس يهودي جديد في القدس الشرقية. وقد غضبت منه الولايات المتحدة مرتين، الأولى بسبب توقيت هذا الإعلان خلال زيارة نائب الرئيس "جو بايدن" إلى تل أبيب لدفع عملية السلام، والأخرى أنه قوّض ما يسمى بالمفاوضات غير المباشرة عبر الوسطاء الأميركان. وقد أتى هذا الإعلان بعد يوم واحد من موافقة اللجنة الوزارية العربية على دعم المقترح الأميركي بإعادة المفاوضات غير المباشرة إلى مسارها المتوقف منذ الحرب الإسرائيلية على غزة في يناير من العام الماضي. وقبل أن نتحدث عن التحدي الإسرائيلي للمبادرة الدبلوماسية الأميركية، ينبغي أن نعرف أن نتنياهو اصطدم من قبل مع الإدارة "الديمقراطية" خلال الفترة الثانية من حكم بيل كلينتون، وقد نجحت ضغوط إدارة كلينتون في تفكيك التحالف الإسرائيلي الحاكم حينذاك وانهيار حكومة نتنياهو، وقدوم إيهود باراك كرئيس جديد للحكومة، الذي لم يستطع، هو أيضاً، حينذاك التوصل إلى اتفاق مع عرفات، ولكنه استطاع التقرب من كلينتون وفرض رؤيته لحل أعرج للقضية الفلسطينية، لم يرَ النور حينئذ، لأسباب إسرائيلية وفلسطينية. وما يحدث اليوم من صدام دبلوماسي بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو، وصفه السفير الإسرائيلي في واشنطن بأنه أسوأ أزمة تشهدها علاقات البلدين منذ أكثر من ثلاثة عقود. وهناك مدرستان تحليليتان تنظران إلى الموضوع، أو الأزمة الحاضرة، أولاهما ترى في هذه الأزمة سحابة صيف لا يمكن أن تؤثر بشكل جوهري في طبيعة العلاقة التاريخية والقوية بين إسرائيل والولايات المتحدة، وترى أن هناك عواصف دبلوماسية كثيرة مرّت على مثل هذه العلاقة، وأن إسرائيل نجحت دوماً في قلب الطاولة على الإدارة الأميركية عبر توجيهها لحلفائها في الكونجرس كي يمارسوا ضغوطهم السياسية على الإدارة الأميركية، بل ليهزموها في محاولة انتخابات التجديد للرئيس الذي يقف في وجه إسرائيل. ويضربون على ذلك بمثل كارتر وبوش الأب الذي ضغط على الحكومة الإسرائيلية، وجمّد عنها بعض الضمانات المالية. والمدرسة التحليلية الثانية، ترى أن هناك تحوّلاً قد يكون جوهرياً في سياسة الولايات المتحدة في المنطقة، وأن إسرائيل قد تكون بالفعل قد أصبحت عبئاً على السياسة الخارجية الأميركية. وهي كانت كذلك على الدوام، ولكن إدراك الساسة الأميركيين لمثل هذا العبء لم يأتِ إلا في وقت متأخر. وربما كان دفع إسرائيل لأميركا كي تغزو العراق بتحريض من اليمين المسيحي سبباً في ذلك. وأيضاً ربما كان تحول الولايات المتحدة من لاعب خارجي على ملعب الشرق الأوسط السياسي إلى عامل مهم ومتدخل جوهري في اللعبة الشرق أوسطية سبباً آخر في مثل هذا التغيّر. وحين انتقد "بايدن" التصرفات الإسرائيلية مؤكداً أنها تعرض حياة الجنود الأميركيين في العراق وأفغانستان للخطر، فإن ذلك كان بمثابة تذكير للإسرائيليين بأن هناك شعوراً قومياً أميركياً، على الأقل لدى الطبقة السياسية في الولايات المتحدة، أو جزء منها، مؤداه أن إسرائيل الحليفة القوية للولايات المتحدة، أهانت الدولة الكبرى في شخص نائب رئيسها، وأن على تل أبيب أو قيادتها السياسية الحالية أن تتحمل النتائج. ولعل أبرز ما ذكر هنا هو ذهاب المتحدث باسم الخارجية الأميركية إلى أن "الدول التي تتسلم الإعانات والأموال الأميركية، عليها أن تنصاع لإرادة المانحين". ومثل هذا النمط من الخطاب السياسي في واشنطن يعتبر خطاباً قوياً. ولذلك فإن اليمين اليهودي الأميركي ممثلاً في أحد أقطابه "مايكل فبيننوك"، قد أزبد وأرعد وتوعّد الرئيس الأميركي بالويل والثبور وعظائم الأمور. وقال إن أوباما سيدفع ثمناً سياسياً باهظاً بسبب ضغطه على إسرائيل بشأن القدس ووقف بناء المستوطنات فيها، وأن اللوبي الإسرائيلي في واشنطن سيقف ضد مرشحي الحزب "الديمقراطي" في الانتخابات النصفية للكونجرس في نوفمبر القادم ليلقن أوباما وحزبه درساً عميقاً في كيفية التعامل مع القادة الإسرائيليين، واللوبي الصهيوني. وهذا يمثل منتهى الغطرسة سواءً من قيادة إسرائيل وحكومتها، وكذلك من أقطاب زعماء اللوبي في نيويورك وواشنطن. وكذلك فإن رجال الكونجرس المتحالفين تاريخياً مع إسرائيل بدأوا كالعادة في عزف أنشودتهم القديمة التي تقول: لا للضغط على إسرائيل، ويجب ألا يكون موضوع القدس أو السلام سبباً في توتر العلاقات بين واشنطن وتل أبيب. ويلاحظ، في تضاعيف هذا السجال، أن الصحف الإسرائيلية، والكُتّاب الإسرائيليين في معظمهم اصطفوا خلف نتنياهو، بل إن بعضاً منهم طلب منه أن يكوّن حكومة وحدة وطنية بمشاركة "كاديما" حتى يمكنه الوقوف أمام الضغط الأميركي في موضوع وقف الاستيطان. ولم يشذ عن هذه القاعدة سوى الكاتب "إيمانويل روزن" الذي نشر مقالاً قال فيه "إن الولايات المتحدة لم تعد تثق بنا". مؤكداً أن سياسات نتنياهو وأعوانه ووزرائه قد ألحقت ضرراً بالدبلوماسية الإسرائيلية وبمصالح الدولة اليهودية. ومهما يكن من أمر، فإنه حتى لو كان هناك رأي عام مساند لإسرائيل في الولايات المتحدة، فإن آراء الطبقة المثقفة، خاصة في الحزب "الديمقراطي"، قد شهدت تغيّراً كبيراً تجاه القضية الفلسطينية منذ صدور كتاب كارتر، وكتب أكاديمية أخرى تنتقد بشدة السياسات الاستيطانية الإسرائيلية، وتدافع عن قضية بناء دولتين إحداهما فلسطينية، والأخرى إسرائيلية، كسبيل أوحد للسلام في الشرق الأوسط. ربما تكون الإدارة الأميركية مثل المثقفين الأميركيين قد سئمت من الغطرسة الإسرائيلية وسياسات التوسع التي لا نهاية لها، بل سئمت أكثر من ذلك من دفع إسرائيل للولايات المتحدة للدخول في حروب إقليمية لا تنتهي. إن أميركا وشعبها يطمحان للسلم، فقد أنهكتهما الحروب، أما إسرائيل وقادتها وجنرالاتها فقد أصبح التوسع والحرب أسلوب حياة لهم، وهم لا يتورعون عن استخدام أموال دافعي الضرائب الأميركيين، وحتى أرواح أبنائهم للحرب نيابة عنهم، تمويلاً ومغامرة وتضحية.