"العلاج الوهمي": دواء من جنس الداء!
من الصعب تحديد التاريخ الذي ظهرت فيه أصلاً فكرة علاج الأمراض التي تصيب أفراد الجنس البشري، وإن كان من الطبيعي والمنطقي الافتراض بأن الإنسان سعى لتخفيف ما يصيبه من آلام، وعلاج ما يتعرض له من جروح وإصابات وأمراض منذ وطئت قدمه سطح كوكب الأرض. غير أن التطور الطبي في المجتمعات البشرية، يمكن تقسيمه إلى ثلاث مراحل أساسية: الأولى هي فترة ما قبل اختراع الكتابة أو فترة ما قبل تدوين التاريخ. والثانية هي الفترة التي امتدت من استخدام الكتابة بصورها المختلفة وحتى نهاية العصور الوسطى. أما الفترة الثالثة أو فترة العصر الحديث، فقد بدأت مع بدايات القرن التاسع عشر، وترافقت بثورة في العديد من المجالات العلمية المختلفة. وتتميز الفترة الأولى بأن الممارسات العلاجية حينها، كانت تنتقل من جيل إلى آخر أو من مجتمع إلى آخر، من خلال التراث الشفهي فقط، وهو ما تغير مع اختراع الكتابة حيث توفرت فرصة تراكم المعرفة، وانتقالها بين الأشخاص دون الحاجة للاتصال المباشر. وإن كانت هاتان الفترتان قد تميزتا، بسيطرة الاعتقادات بدور مركزي وأساسي لقوى الطبيعية، ولقوى فوق الطبيعة، في التسبب في الأمراض، وفي فعالية سبل العلاج. وهذه القوى شملت، في نظر إنسان تلك العهود، غضب الآلهة، والأرواح الشريرة، وكيد السحرة والمشعوذين، بالإضافة إلى الذنوب التي ربما يكون المريض قد ارتكبها في مراحل سابقة من حياته.
ولذا، ففي هاتين الفترتين الأوليتين، كان العلاج يعتمد في معظمه على طقوس وشعائر دينية، أو على الأعشاب والنباتات، أو على حفنة من المواد الكيميائية المتوفرة بشكل طبيعي. والمفارقة أن تلك السبل على رغم عدم فعاليتها في غالبية الأحيان، وتسببها في ضرر في الكثير من الأحيان، كانت أحياناً ذات فائدة في تخفيف آلام المرضى وعلاج الكثير من أعراض مرضهم. وهذه الفائدة، إما أن تكون بسبب التأثير المباشر للمواد الفعالة الموجودة في تلك السبل العلاجية، أو بسبب ما يعرف بالتأثير الوهمي أو الزائف للعلاج (Placebo Effect). وفهم هذا التأثير، لابد أن يبدأ بإدراك طبيعة وقوة العلاقة بين العقل وبين صحة الجسد ومرضه. فمنذ بداية القرن العاشر الميلادي لاحظ الأطباء المسلمون مدى تأثير الحالة النفسية على الحالة الجسدية، وبالعكس أيضاً مدى تأثير الحالة الجسدية على الحالة النفسية، وهو ما شكل بداية الإدراك لطبيعة التفاعل بين الحالة النفسية وبين العمليات الفسيولوجية داخل الجسم، وقدرة كل منهما على التأثير في الأخرى. وهذا الإدراك وصل إلى قمته عند الطبيب المشهور ابن سينا الذي ربما يكون هو أول من توصل إلى إدراك كنه مفهوم (النفسية الفسيولوجية)، ليشير به إلى العلاقة بين ترابط الصحة النفسية والصحة الجسدية، أو بين ترابط المرض الجسدي والمرض النفسي. وخلال القرون التي تلت تطورت هذه الفكرة من خلال مرورها بمراحل عدة ربما تكون من أهمها فكرة الطبيب النمساوي "سيجموند فرويد" في إمكانية علاج الأمراض البدنية الجسدية من خلال تدخلات نفسية علاجية. وهذه العملية برمتها أدت إلى ظهور فرع حديث نسبياً في عالم الطب يعرف بالطب النفسي الجسدي، ويهتم بدراسة العلاقة بين العوامل الاجتماعية، والنفسية، والسلوكية، وبين العمليات الحيوية داخل الجسم، وصحة الإنسان بوجه عام.
وبناء على هذه الخلفية، يمكن فهم طبيعة تأثير العلاج الوهمي أو العلاج الإيحائي. ففي هذا العلاج، يتم وصف مادة ليست ذات أية فعالية، مثل حبوب من النشا، أو كبسولات من السكر، أو الفيتامينات، أو أحياناً من خلال جراحات وتدخلات علاجية وهمية زائفة. ومثل هذا العلاج أو الجراحة -أحياناً- كثيرة يترك أثراً واعتقاداً لدى المريض بأنه سيحسن من حالته الصحية، وهو ما يولد شعورا بأن الآلام أو الأعراض قد خفت بالفعل نتيجة العلاج، على رغم أن المريض لم يتلقَّ في الأساس أي نوع من العلاج. وهذا المفعول والتأثير يعرف بالوهم العلاجي، أو العلاج الإيحائي. ويفسر الأطباء هذه العملية برمتها، على أنها نتيجة كون الكثير من الأعراض، مثل الألم لغرض وقف استخدام العضو المصاب، أو رفع درجة حرارة الجسم لخلق بيئة غير مناسبة لنمو وتكاثر الجراثيم، هي وسائل غير مريحة، أو مكلفة بيولوجيا للجسم. ولذا في حالة ما اعتقد الإنسان أن مرضه يتم علاجه، فسرعان ما يتخلص الجسم من هذه الميكانيزمات الدفاعية الداخلية، معتمداً حينها على العلاج الخارجي. وأحياناً أخرى، ما تكون الأعراض نفسية المنشأ، أي أن المريض لا يوجد لديه سبب عضوي فعلي خلف ظهور هذه الأعراض، وهو ما يجعل العلاج الوهمي حينها نوعاً من العلاج النفسي.
وبغض النظر عن طريقة عمل العلاج الوهمي أو العلاج بالإيحاء، لا يوصى حالياً باستخدامه بشكل روتيني في الممارسات الطبية اليومية. ويمكن تلخيص الموقف الطبي من هذا العلاج وتأثيراته من خلال تقرير لجنة العلوم والتكنولوجيا المنبثقة عن مجلس العموم البريطاني، والذي ينص على أن "استخدام علاج وهمي بشكل صرف، هو نوع من الممارسات الطبية السيئة، بسبب كون تأثيره غير معروف بالتحديد، ولأن نتائجه لا يمكن توقعها. ولذا لا ينبغي أن يستخدم العلاج الوهمي أو الإيحائي بشكل منفرد في النظام الصحي الوطني في بريطانيا". ونفهم من هذا الموقف أن العلاج الوهمي ليس بعلاج، وإن كان لا يوجد مانع من استخدامه في بعض الحالات، بعد أن يتم تشخيص المرض بشكل دقيق، وعلاجه من خلال أسلوب موثق النتائج، ومعروف التأثيرات على الحالة المرضية، وعلى الأعراض التي يشتكي منها المريض، وتبعاً للدراسات الطبية الحديثة، الحقيقية والفعلية وغير الوهمية أو الإيحائية.