التعقل والحكمة في الأداء السياسي لجمهورية مصر العربية ليس مستغربا، فهي تبحث دائماً عن هدوء العالم واستتباب أمنه بتفعيل دبلوماسيتها النشطة والبعيدة عن الضوء، الذي لا يبحث عنه إلا من يبحث عن الإثارة بالأقوال مع تغييب الأفعال. لقد سعت مجموعة من شركات الأمن متعددة الجنسيات، لعقد مؤتمر لها في القاهرة في شهر مايو من العام الماضي، واستقطبت له وزيراً في الحكومة الصومالية الحالية، وقد رفضت مصر إقامة مثل هذا المؤتمر المشبوه على أراضيها، ولها تفسيرها لهذا الرفض، إلا أنني أرى أنها كانت على صواب برفضها الذي يؤكد قاعدة مفادها أن الأمن واستتبابه مهمة الدول وليست الشركات الباحثة عن الربحية. لقد حاولت هذه الشركات من خلال مؤتمرها التي سعت لإقامته في القاهرة أن تضع أمن الشواطئ الصومالية وخليج عدن، على طاولة البحث والمناقشة التي يشاركها فيه عدد من شركات النقل البحري المهتمة بأمن خليج عدن التي تعبره سفنها وناقلاتها العملاقة بشكل يومي، ووسط تزايد لعمليات القرصنة التي تزامن ارتفاع وتيرتها مع موعد المؤتمر الذي دعي له بشكل عاجل، لكن الحكمة المصرية حالت دون انعقاده. مصر ترى أن الأمن مهمة عامة، وليس مشروعاً تجارياً يطرح للشركات الخاصة، لكن هذه الرؤية لم تحل دون توجه المدراء التنفيذيون لثلاث من الشركات المتواجدة في كواليس هذا المؤتمر برفقة الوزير الصومالي إلى مقديشو حينها لإبرام صفقة أمن الشواطئ المزعوم. حضرت كغيري من الصحفيين الذين حضروا إلى هذا المؤتمر، ولم يجدوا تفسيراً لعدم انعقاده حينها، إلا أن بعضاً منا حصل على مراده من المعلومات حول هذا المؤتمر، وعن بعض الخطوط العريضة للغرض المراد منه. واستطاع المصريون بحنكتهم أن يعرفوا نتائج هذا المؤتمر قبل انعقاده، فمن أسماء الشركات الأمنية المشاركة فيه، يستطيع الصحفي أن يرى مناطق مظلمة تثير ريبته، فما بالك برجل أمن أو سياسي مخضرم اعتاد على الرؤية في هذه العتمة. عرف المصريون أن من بين الشركات المشاركة في هذا المؤتمر، شركة "بلاك ووتر" سيئة الصيت، ولكنها تتوارى خلف شركة أخرى مشابهة لها في النشاط والجنسية، واستطاعوا أيضاً معرفة تمدد إحدى الشركات المشاركة في هذا المؤتمر، والنطاق الجغرافي لعملها، فمن مدينة عدن التي أسست فيها فرعاً، إلى ميادين ومعسكرات لتدريب عناصرها على أراضي دولة عربية أخرى! وهذه المعلومات التي استطاع المصريون معرفتها قبل بدء المؤتمر تضاف لحنكتهم السياسية التي حالت دون سلبيات كثيرة، وأحبطت مؤامرات كبيرة ضد المنطقة وأهلها. ومما يضاف لحكمة المصريين وحنكتهم أنهم اكتشفوا في كواليس ذلك المؤتمر، ودهاليزه المظلمة اجتماعاً عقد مساء في الجناح المخصص للوزير الصومالي جمعه مع الملحق العسكري في السفارة الأميركية في القاهرة وممثلين عن الشركات الثلاث قبل توجههم مع الوزير إلى عاصمة بلاده، إضافة إلى عدد من الأشخاص المدنيين الذين يتقنون العمل العسكري والأمني للدرجة التي طلب فيها أحد هؤلاء المدنيين من أحد مرافقي الوزير الصومالي، قائمة بأرقام الهواتف المتنقلة لرموز المعارضة الصومالية!. ما يحدث في الصومال منذ عقدين من الزمن يكشف تعقيدات المصالح الدولية، وخطوط تنفيذها لسياساتها في سبيل تحقيق مصالحها، إن كان بالشكل الرسمي عبر القنوات الدبلوماسية، أو عن طريق استخدام ما يحجب الرؤية عن المستفيد إنْ عبر شركات ذات طابع ربحي، أو غيره من الأساليب التي باتت لا تنطلي هذه الأيام على الكثيرين من المتابعين، إلا أن ما يزيد الأمور تعقيداً، هو أن الأفعال تسبق ردود الأفعال دائماً، وهذا يجعلنا نتوجس من عدم قدرة ردة الفعل على محو أثار الفعل. استنفر مجلس الأمن الدولي عام 2008، وأصدر قراره المختص بالقرصنة في خليج عدن، وضرورة الحد من أنشطة القراصنة في الصومال، ومازلنا إلى هذه اللحظة نشهد أعمال قرصنة في خليج عدن انطلاقاً من الأراضي الصومالية، وإن قل عددها في الآونة الأخيرة بسبب التواجد العسكري قبالة الشواطئ الصومالية، ولكن ما يتخذ القرار الدولي بموجبه هي حلول وقتية ترتبط بمصالح الدول العظمى، وليس لها علاقة من بعيد أو قريب من هموم وقود الحرب الصومالية، وهم الصوماليون أنفسهم! وهنا مكمن الغرابة والشك تجاه الحلول للحرب في الصومال!، فلن يكون هناك حلول بمعزل عن هموم المواطن الصومالي، الذي يُتخذ عنصراً أساسياً في هذه الحرب التي طال أمدها. ورغم أهمية خليج عدن للملاحة الدولية حيث يمر منه ما يقرب من 30 في المائة من تجارة العالم، فإن هناك دولاً لا تعير أهمية لهذا الرقم المخيف لو استطاعت "حركة الشباب" السيطرة على الحكم في الصومال، والكل بات يعرف ما تمثله هذه الحركة. تقدمت أولويات ذات خطر أكبر في الآونة الأخيرة، دعت المجتمع الدولي يشيح بوجهه عما يحدث في الصومال رغم أهميته الأمنية ذات البعد الاستراتيجي العالمي. ما يجب فعله في الصومال هو طبقاً لما يعمل على تحقيقه عدد من الدول العربية- وفي مقدمتها السعودية ومصر- الذين يعملون على إيجاد حلول لقيام دولة صومالية قادرة على السيطرة على كافة الجغرافيا الصومالية، ومنع استغلال الخلافات بين الفرقاء الصوماليين من قبل دول خارجية لا تسعى إلا لتحقيق مصالحها فقط.