الانتخابات العراقية وحدود "الانتصار" الأميركي
توجه العراقيون يوم الأحد الماضي إلى صناديق الاقتراع، وشاركوا بكثافة في عملية التصويت حسبما أوردته آخر التقارير، وذلك رغم التهديدات الأمنية وأخطار التفجيرات المحدقة بمراكز الاقتراع. وبتحديهم للعراقيل الماثلة وتدفقهم على صناديق الاقتراع للإدلاء بأصواتهم، أثبت العراقيون مرة أخرى رغبتهم في إنجاح العملية السياسية، وفي اختيار ممثليهم وحكومتهم القادمة. ولم تتقاعس أية شريحة من شرائح المجتمع العراقي بما في ذلك السُنة الذين فضلوا اختيار ممثليهم على مقاطعة الانتخابات مثلما حصل في المرة السابقة، فقد أدرك السُنة على ما يبدو فداحة الخطأ، الذي ارتكبوه بإقصاء أنفسهم عن المشاركة السياسية، وفتح المجال أمام الآخرين لتقرير مصير البلاد نيابة عنهم.
وبنجاح الانتخابات، وعدم تسجيل أعمال عنف كبرى رغم بعض التجاوزات التي ستبحثها المفوضية العليا للانتخابات، تكون الولايات المتحدة قد هيأت الطريق لانسحاب قواتها من العراق دون مشاكل في الوقت، الذي بدأت تظهر فيه أولى ملامح التطبيع السياسي في العراق مع تراجع أعمال العنف. لكن ما يشهده العراق حالياً من تنافس سياسي تحسمه صناديق الاقتراع لا ينفي احتمال عودة العنف والاقتتال الطائفي، كما أن بلوغ مرحلة النضج السياسي التام واستقرار الساحة بين أبرز الفرقاء العراقيين لم يتكرس بعد ومازالت احتمالات الانتكاس والعودة إلى موجات العنف السابقة قائمة.
لكن هناك ميلا لدى بعض الأوساط الأميركية لقراءة الواقع العراقي الحالي والتقدم المحرز على الصعيد السياسي، على أنه انتصار أميركي حتى وإن جاء متأخراً، حيث تبين حسب رأيهم أن مشروع إقامة الديمقراطية في العراق وزرع بذور المشاركة السياسية الغائبة تقريباً في المنطقة، قد تكرس فعلًا على أرض الميدان وبات واقعاً يصعب إنكاره.
وبهذا المنطق يعطي المدافعون عن هذا الرأي فرصة لـ"المحافظين الجدد" للتباهي مرة أخرى بإنجازهم في العراق، والرد على الانتقادات التي كانت وجهت لهم بعد اجتياح العراق في العام 2003 والفوضى التي اكتسحت البلاد، فبعد مرور 18 شهراً على تعرض"المحافظين الجدد" إلى هزيمة نكراء على أيدي الرئيس أوباما وخروجهم من البيت الأبيض إثر عجزهم الواضح عن احتواء العنف الذي استشرى في العراق وضمان حد أدنى من الاستقرار، لاسيما بعدما بدا الوضع وكأنه يتداعى تماماً مع تنامي الفرز الطائفي وبروز احتمالات انقسام العراق إلى أقاليم ومحافظات على أساس طائفي وعرقي، ولم يخفف من مشاعر الهزيمة لدى "المحافظين الجدد" سوى المشاكل والصعوبات التي يواجهها أوباما حالياً في أفغانستان وصعوبة التوصل إلى حل ينهي حالة العنف المتفشي، بالإضافة إلى مشاكله الداخلية وتراجعه عن بعض وعوده التي كان قد أطلقها في حملته الانتخابية مثل إغلاق سجن جوانتانامو ودفع عجلة السلام المتعثرة في الشرق الأوسط.
وفي غلاف مجلة "نيوزويك" الأخير أعادت أسرة التحرير نشر تلك الصورة الشهيرة التي انتقلت بفضل وسائل الإعلام إلى مختلف بقاع العالم عندما بدا الرئيس بوش واقفاً يلقي خطابه وخلفه علقت لافتة كبيرة مكتوب عليها: "مهمة ناجحة" في إحالة صريحة إلى أن المجلة أيضاً، والتي لا يمكن تصنيفها في خانة "المحافظين الجدد"، ترى فيما يشهده العراق حالياً من تقدم سياسي تجلى في الانتخابات الأخيرة انتصاراً متأخراً للرئيس بوش وجماعته، وذلك رغم التكلفة الباهظة في الأموال والأرواح، فحسب المجلة يمتلك العراق اليوم مؤسسات مهمة وتعددية حزبية، فضلاً عن صحافة حرة وجيش يحظى بالاحترام في كل مناطق العراق، بالإضافة إلى ما تمثله الديمقراطية العراقية من نموذج يمكن نقله إلى بلدان المنطقة.
فهل يمكن فعلاً التعامل مع الانتخابات الحالية على أنها انتصار لـ"المحافظين الجدد" بعدما تحققت تطلعاتهم في العراق، وصدقت نبوءتهم في التحول إلى واحة للديمقراطية؟ الحقيقة أنه يجب الانتباه إلى الثمن الباهظ قبل التسرع في كتابة مستقبل متفائل للعراق، إذ لا يمكن القفز مثلا عن مئات الآلاف من القتلى العراقيين الذين دفعوا أرواحهم بسبب الحرب وتبعاتها.
ويجب ألا ننسى أيضًا تلك الهوة السحيقة التي انفتحت بين العالم الإسلامي والغرب في وقت تتنامى فيه معاداة الإسلام في الغرب، وتتصاعد فيه المشاعر السلبية تجاه هذا الأخير في الدول والبلدان الإسلامية، كما يجب ألا يغيب عن أذهاننا أن نشر الديمقراطية في العراق، لم يكن أبداً من الأهداف الأساسية التي دفعت إدارة بوش للإطاحة بصدام، بل كانت تبريراً لم يظهر إلا في مرحلة متأخرة بعدما اشتدت الانتقادات الموجهة لواشنطن فجاءت فكرة إحلال الديمقراطية في العراق كمحاولة لإضفاء الشرعية على المغامرة الأميركية، فقد كانت أميركا على الدوام راضية عن النظام الحاكم في بغداد، بل وقفت إلى جانبه في الحرب مع إيران، كما أن هناك أنظمة في المنطقة لا تقل استبداداً عن صدام، فلماذا التركيز فقط على العراق دون غيره؟
وأخيراً علينا ألا ننسى المعاناة التي تكبدها العراقيون خلال سنوات الحصار المريرة في تسعينيات القرن الفائت، وخلفت أكثر من 500 ألف قتيل، لذا فإنه حتى لو عاد الغرب من خلال وسائل إعلامه إلى استخدام لغة الانتصار لوصف التقدم السياسي الملحوظ في العراق عليه ألا يتجاهل التكلفة الباهظة للحرب وتداعياتها التي ستبقى آثارها ماثلة لفترة طويلة.
فقد كان الحصار القاسي الذي خنق العراقيين لسنوات طويلة المسؤول الأول عن تمكين صدام من إحكام قبضته على الساحة الداخلية وتثبيت أركان نظامه، وجاءت الأخطار الأميركية اللاحقة في التعامل مع العراق لتفاقم الوضع، ورغم كل ما يقال عن رجوع العراق إلى سالف عهده، وتعافيه من تداعيات الحرب، فإن أميركا نفسها خسرت الكثير من الناحية الاستراتيجية، بعدما تكبدت خسائر جسيمة، وفتحت المجال أمام قوى إقليمية صاعدة ومنافسة لمزاحمة النفوذ الأميركي وممارسة التأثير في المنطقة، وإذا كانت الحرب قد انطلقت بمجموعة من الأكاذيب والتضليل، فيبدو أنها ستنتهي بأكاذيب أخرى مثل ادعاء النصر رغم كل التضحيات التي قدمها العراقيون والثمن الكبير الذي دفعوه من أمنهم واستقرارهم.